بنت الرذيلة
د. الجيلالي الغرابي
[email protected]
طفَّلتِ الشمسُ نحو المغيب، فأجَاءَها المخاضُ قرب سور من أسوار إحدى المقابر المنسية، وأنجبت جنينا. أخذته بين يديها، واحتضنته بقوة بين ذراعيها، وتأملته جيدا فإذا به أنثى... زُلزلتِ الأرضُ من تحتها ومن حولها، واسودتِ الدنيا في عينيها...
لفتها في خِرق بالية، وقبلتها بحرارة لا مثيلَ لها على شفتيها الصغيرتين، ثم على غرتها الزهراء المشرقة... قبلتها قبْلاتِ اللقاء فالوداع، وتركتها، ثم اختفت مع أشباح الظلام الدامس...
لقد جعلتها أمانة في عنق الأموات، فهي تعرف تمام المعرفة أن الأموات ما قصروا يومًا في حق إخوانهم الأحياء... أجل، لقد نامت هناك، وشهدت ميلادَ ليلة جديدة. لكن أين غابت عنها ثعالبُ البراري وذئابُها...؟!
اِنجَلى الليلُ، وأرخت الشمسُ أشعتها الجميلة على هذا الكون... أخذ الكلب ينبح وقد انتصبت أذناه، ويقفز ذات اليمين وذات الشِمال... رآه صاحبه الراعي، فراعه منظره، وأدرك أن في الأمر شيئا ما، شيئا غريبا لم يألفه كلبه...
أسرع نحوه، ففوجئ بأسمال قديمة تتحرك، ثم يصدر من أحشائها أنين خافت يكاد لا يسمع. فتشها، فألفى بها جنينا قد أخذ منه الجوع والبرد مأخذا، ووضعه بين يديه، ورفع ناظريه إلى السماء قائلا:
_ إلهَ السماوات والأرض من أتى بهذا الكائن إلى هذا المكان؟! أيكون إنسانا عاقلا ذا كبد وقلب يحسان؟! أم قد تكون لفظته هذه المقبرة الميتة؟! لا هذا مستحيل، بل وهذا غير معقول...
حمله، ثم رجع به إلى كوخه المتواضع وهو متيقن من أنه سيَفجَأ زوجَه العاقرَ الوحيدة مفاجأة لا يتوقعها التوقع، ولا يرقبها الترقب، ولا ينتظرها الانتظار... رأته، فسألته:
_ماذا تحمل بين يديك؟!
_تعالي، اُنظري، لا شك في أن الله تعالى قد استجاب لدعْواتنا
_أجل، لقد لبى الله عز وجل توسلاتنا
_لكن ما الاسم الذي سنطلقه عليها؟!
_سنسميها على بركة الله رجاء، إنها رجاؤنا، ورجاء حياتنا، ورجاء كوخنا، ورجاء كل شيء لدينا...
_ليكن اسمها كذلك يا زوجي العزيزة...
رعى الزوجان الصغيرة رعاية تفوق كل رعاية، واعتنيا بها عناية تتجاوز كل عناية... أخذت تكبر شيئا فشيئا، وأخذ اهتمام الأبوين بها ينمو معها...
ولجت رجاء الفصل، فاجتازت المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية بنجاح. بعد ذلك وجدت نفسها مجبرة على الحج إلى المدينة لإكمال دراستها، واستشارت أبويها، فرحبا برأيها ترحابًا كبيرا، ولم يبديا اعتراضا، وبذلا النفس والنفيس لمساعدتها...
قصدت المدينة، ودخلت الجامعة، فأنهت مشوارها الدراسي بتفوق كبير، وعُرضت عليها عروضُ عمل عديدة... وبعد مدة تغيرت أوضاعها، وتحسنت أحوالها، وأحست بالمسؤولية الجسيمة الملقاة على عاتقها...
ذهبت ذات مساء _بعد أن أتمت عملها_ إلى كوخ أبويها، وألفتهما يحتسيان الشاي، فشاركتهما... أخذوا بأطراف الأحاديث بينهم، فقالت:
_ما رأيكَ أبتاه وما رأيكِ أماه في الرحيل إلى المدينة؟! فتبتعدا عن حياة الحرمان والشقاء، وتتركا أسباب الكد والعناء؟!
فردا:
_لا مانع لدينا، نحن معك أينما حللت وارتحلت.
ثم قال الأب:
_لكن خبِّريني يا بنيتي عن مصير هذا الكوخ، أنبيعه؟ أنهبه لمعوز من المعوزين؟ أم ماذا نفعل به؟!
اِبتسمت قائلة:
_لا أبتاه، لن نبيعه، ولن نهبه، سيبقى طللا حيا، وتمثالا باذخا يشهد على حقبة معينة من حياتنا، وسنزوره بين الفينة والأخرى ليذكرنا بما سلف إن نحن نسينا أو تناسينا...
حطت الأسرة الصغيرة رحالها بالمدينة، وعاشت في رغد، ونفضت عنها غبار الماضي القاتم...
اِنطوت السنون، فأصيبت الأم بمرض قضت نحبها إثره، حزن الأب والبنت حزنا شديدا لم يستطع الأب له مقاومة، ولا لوقعه مدافعة، فسقط طريحَ الفراش مدة لقي بعدها حتفه هو الآخر...
لقد مات الزوجان فمات معهما سر رجاء، ودفنا فدفن معهما، وانتقلا إلى عالم الأرواح فانتقل معهما... لقد بقي سر رجاء سرا لا يعلمه أحد سوى ذلك الكوخ الشامخ المتكبر هنالك... لكن أنى له أن ينطق؟! وحتى وإن تكلم، فأنى لها أن تفهم لغته...؟!