عود على بدء

محمود رفعت

[email protected]

هزني صوتها هزًّا، وهي تصيح بانفعال: وفيها ماذا يجذبك فتنظر إليها هذه النظرة المتعبة التي تفضح ارتياحك لهذا الإثم...

النظرة الآن إثم!

وكنتِ ترضين لو كانت لملكة جمال!

هذا هو الرد الذي كدت أقوله عند سماعي كلماتها، ولكنني لم أجرؤ!

فأنا لا أستطيع أن أجادل فيما أعرف أنه حق، وليس لغير ذلك!

لم أستطع أن أرد عليها بالرد المناسب؛ لأنها لم تعطني الفرصة، فأكملتْ: وكيف تنظر إليها هذه النظرة، ولا شيء فيها سوى لمعان مساحيق كأنما قصدت أن تغطي بها كل آيات الخالق في وجهها؛ لتصنع بنفسها "جمالًا" يناسب ذوقها، فلم ترفع يدها عن وجهها إلا وهو عذب كالماء غير أنه لا سائغ ولا رائق!

 ولو أنك نظرت في  ظروف غير ظروفك هذه لقلتُ: نفس بشرية تمل القريب السهل على طيبه، وتهفو لكل بعيد، ولو كان سيئًا فاسدًا. إلا أنك لا تزال على أعتاب مرض كنت فيه كغريب تاه في صحراء لا يعرفها، وطال تيهه وكثر ضربه شرقا وغربا، حتى استبد اليأس به، فوقع وقد ثقل عليه أن يكون تائه صحراوين: صحراء الأرض، وصحراء اليأس، وقع المسكين يائسا، ولم يدر أنه قد اقترب من الفرج زمانًا ومكانًا، ثم إنه شوهد فقبض عليه، وأودع سجنا، فكان بالنسبة له "سجن الحقيقة" التي لا تيه بعدها، أو هكذا أَمِلْتَ، فقد نظرتَ في مرآة سجنك، فإذا بإنسان كل ما فيه ضعيف: جسم تولى المرض إرهاقه، فأرهق بعد مقاومة يسيرة، ونفس كان يظن بها قوة التحمل، فإذا هي مع اشتداد المرض بلا ثبات أو صبر، ويجمع بين هذا وتلك إيمان يأتي به ظرف، ويذهب به آخر، وقد اطلعتَ من سجنك على صحراء الحياة، فإذا هو عالم كأنما خرج من الأكاذيب، وبني عليها، فلا قلب فيه خالص، ولا ود فيه صاف، لا لك ولا لغيرك، وما زلت على الأعتاب، وما كنتُ أؤمل فيك أن تلقي بكل هذا خلف ظهرك، ولو بعد حين، فإذا بك تسارع إلى إلقائه، ثم تنظر فترى تلك، فتعلق بها عيناك، فماذا بربك يجذبك فيها!

لم تكن تتوقع أن يكون لذلك الاستفهام إجابة، أو أن أتجرأ بالبوح بها فعلا، ولكنني قررتُ أن أصدمها، فقلتُ: لن تصدقي.

صدمت... لا تزال مصدومة...لا تزا...بدأت تدرك الموقف...أتثور؟!...لا، لن تفعل؛ إنها تفكر.

قالت: فجربني، ماذا جذبك فيها؟

يا لهذا الهدوء المطاطي العجيب، ويا ويلي من العواصف والغيوم التي يخفيها!

قلتُ: مشيتها؟

- مشيتها...!

ناوشها بالكلمات واشغلها عن الثورة!

- أجل، فليس في هذه المرأة إلا ما قلتِ من تجمل قبيح غير أن الإناث في نظر الرجل ...

تكاد تقاطع ساخرة فأسرع كتمانها

- أرجوك اسمعيني للنهاية، ثم قولي ما شئتِ!

- وهل قلتُ شيئا! أنا...!

- حَسَنٌ جدًا، الإناث في نظر الرجل أصناف، ولكل صنف مشية خاصة هي جزء من صورته في ذهن الرجل، والشيء بالشيء يذكر، ونحن لا نرتاح لأننا رأينا جزءًا من الصورة، وإنما نرتاح لأن هذا الجزء ذكرنا بالصورة كاملة؛ فهذه التي لا تعجبك – مثلا-، وأنت محقة فيما قلتِ، تمشي جادة، واثقة بجمالها، وجريئة بغير ابتذال، فتعطي إيحاء بأنها غير آبهة للآخر، ولا ساعية لجذبه أو نيل رضاه، إذ إن الذي يهمها راض بها كما أنها راضية به، ومجذوب إليها كما جذبت هي إليه، فهذه هي مشية الحبيبة، أما مساحيق هذه المرأة فربما كانت هي التي تمدها بالثقة، ومن النساء من تمشي جادة أيضا، تثق بنفسها، لا بشكلها، يغطيها الحياء ولا تبدو منها جرأة، فهذه ترسم بمشيتها صورة الزوجة التي تؤتمن على البيت والنشء، وهذه هي أجمل النساء على الإطلاق، ليس فقط لجمال حيائها عليها، وجلال أدبها، وبهاء أخلاقها، وإنما لأنها اتسقت في حياتها مع طبيعة الحياة العامة، أو قولي – إن شئتِ – مع حياة الطبيعة، فلم تهمل دورها لتُظهر نفسها، وإنما استعدت له وسارت في طريقه وإن اختفت في زحمة الحياة أو بين طيات الطبيعة، وأسوأ الإناث هذه التي لا تمشي خطوة إلا وفيها ألف دعوة إلى نفسها، ففي كل خطوة رقصة، تعرض فيها مفاتنها وجمال مفاتنها التي تراها حقيقة باهتمام الجماهير كلها، فمثل هذه لا ينظر إليها أحد إلا بعيني شهوته الحيوانية، ومن ينظر إليها بعيني رجولته الحقيقية يعافها، ويبتعد عنها كما يبتعد عن مائدة أعدت له من بواقي وفضلات جمعت من أشهر مزابل العالم، ومثل هذه المسكينة تكون لمن يقترب منها ممن تغلب عليهم حيوانيتهم العمياء كدخينة (سيجارة) يقبّلها ساعة، ويرميها، فتوطأ كل ساعة، وما انتشار الطلاق في مجتمعاتنا إلا من انتشار هذين الصنفين من الذكور والإناث، فأحد الطرفين أو كليهما يسعيان لمتعتهما فيلتقيان ساعة ثم يتدابران باقي العمر.

 سكتُّ، ونظرتُ "للهدوء المطاطي العجيب" أحاول أن أبصر عليه آثار بعض ما يخفي خلفه، فإذا بالعواصف والغيوم التي كانت خلفه قد استحالت راحة لكلماتي وحبًّا لها، وإذا بها قد تقدمت الحاجز المطاطي؛ لترسم عليه ابتسامة عريضة تعد بعودتها لطبيعتها الأمارة بالسوء، بعد أن تمسكت لحين بطبع النفس اللوامة.