التنين

ناديا مظفر سلطان

سنين طويلة عجاف  مرت على الغابة النائية ، لم تنعم خلالها بقطرة ماء .

 لم تغط شمسها سحابة ، لم يخالط زرقة سمائها ،بياض غمامة .

منذ زمن بعيد ، ولياليها قمراء ، ونهارها رمضاء  . الزمن فيها وئيد الخطى ،ثقيل الوطاء ...

 سيد الغابة هو التنين ، والإتاوة فرض عين ...على كل دابة تدب ، أو طائر يرف.

ففي البكور،تحلق الحمائم و الطيور ، وتحط ... لتضع بيضها أمام كهف التنين .

وفي الظهيرة ، تهرع القرود ، لتقطف الثمار ، وتملأ السلال بالغلال  ...وتقدمها للتنين .

وفي الأماسي  تمضي الأبقار والأغنام ، والخيول والجمال ، إلى التنين ،

 فتضع كل ذات حمل حملها ، و تعود أدراجها  ، تاركة صغارها ، طعاما للتنين .

و التنين لا يتجلى إلا في المساء ،كي يلتهم ما قدم إليه من وافر العطاء .

لا تكاد مخلوقات الغابة ، تذكر منذ متى ، وهي على تلك الحال، من الجدب والجفاف والقهر والعذاب ...

حتى كان ذات يوم تمردت فيه الخيول وأعلنت العصيان .

بزغ التنين كعادته في المساء ، فلم يجد أثرا للمهور في وجبة العشاء ...  زأر التنين وزمجر، وعربد وتوعد .هرعت إليه الضباع من الكهوف والجبال والسهول والقفار، ملبية النداء ،داعية لسيدها بطول البقاء .

لم ينقض اليوم حتى أغارت على الخيول ، وتركت قطعانها عصف  مأكول .

حبست الغابة أنفاسها ، ولملمت الخيول صرعاها  ،ولزمت الطيور أوكارها ، فلم يعد يسمع غناء عصفور أوصداح شحرور .

في المساء حط  بالقرب من كهف التنين ، عندليب ، كان غناؤه عذب  ،أخذ يغني ويهجو التنين ، رددت الطيور غناءه ، ورجعت الوديان صدى نداءه ، وسخر الجميع من التنين .

تصاعد غضب الوحش ،فأطلق من فيه الحمم ، وتصاعدت منه ألسنة اللهب ، فأحرق الأشجار ،وأباد الزرع ، وأتلف العشب والأزهار.

طار العندليب بعيدا ، وقف على الأطلال حزينا ، وظل يشدو ،متحديا ،وهازئا بالتنين ... ورددت الطيور نشيده الساخر الحزين.

 تطاير الشرر من عيون التنين ، تعاظمت ثورته ،صاح وهو يقذف بالحمم: من يجرؤ على عصياني؟

من يقف في وجه طغياني ؟ أنا ملك الغابة ، أنا المحيي أنا المميت !

رددت الضباع قوله :أنت المحيي وأنت المميت.

ثغت الشاء من الشمال  البعيد : لاحول لنا ولا قوة من غير التنين ، هو المحيي والمميت .

حشرت الوحوش قواها ، تربصت الضباع ،  بالطير الشجاع، وثب أحدهم عليه فاقتلع حنجرته ورماها أمام كهف التنين ،صاح : لبيك يا سيد العالمين.

صفقت القرود وكشرت ، تراءت لها ظلال التنين ،فسبحت بحمده وشكرت.

في المساء أضرم التنين النار في ساح الغابة  ،تحلقت الضباع ،وآزرتها الذئاب . رقص الجميع فرحا،أكلوا حتى أتخموا ، شربوا حتى امتلأوا ، ونادوا :لاإله لنا سوى التنين- إنه المحيي إنه المميت–

إنا له للأبد خاضعين.

هزت الخنازير رؤوسها ،كانت مشغولة بالتهام بقايا وجبة التنين ، ومخلفاته ، وفضلاته ، فلم تقو على النهوض لبدانتها ، لهثت وتمتمت :أجل ... التنين ...هو... المحيي ....هو... المميت

غرق الجميع في سبات عجيب ...حتى أمسى  الصبح  قريب.

سمع الجميع صخبا ...تزايد الصخب ، تعاظم الصهيل  ، وعلا الهديل .

ضبحت العاديات وقدحت ، شهقت حينا وزفرت ، تطاير من وقع نعالها الشرر ، غاب النجم ، وأفل القمر

زأر التنين غاضبا ، أطلق من فيه الحمم ، وغرقت الغابة في لجة لا قرار لها ، من غبار ولهب .

حلقت أسراب الحمائم ، فغطت صفحة  السماء ، توارت الشمس في ملاءة بيضاء .

اشتد الوقع ، وثار النقع ....عصفت العاصفات ، وجرت المرسلات ... ثم سقطت قطرة ماء على الأرض ،تبعتها قطرات ، توالى الغيث ، وانهمر مدرارا، وجرى الماء أنهارا .

أخلدت الحيوانات إلى الأرض تلهث ، وكان أكثرها تخمة ، أسرعها غرقا .

حطت الحمائم على أعناق الخيول عانقتها ، قبلتها ، بكى الجميع ، بعد الهول وطول العذاب .

انطفأت نار التنين ، اشرأب في موضعه ، وأخذ يتلوى محاولا النجاة من موج كالجبال ، حتى إذا أدركه الغرق،هتف وهو يحشرج  ، والماء يحيط به من كل مكان: أشهد أنالله هوالمحيي و المميت .