رأيت الأمل
محمود القوصي
لا أعرف أين كنت ؟ أو أين جسدى موجود الآن ؟! كل الذى أدركته أننى ملقي علي أرض رطبة و الضباب كثيف من حولي يحجب الرؤية على الإطلاق ، أحسست بخدار و برودة في أطرافي و تلمست جسدى فشعرت بكدمات مؤلمة للغاية في جنباتى و أدركت أن ملابسي بالية متسخة مهترئة , وأحسست بوهن شديد أعاقنى عن النهوض و لكنى استجمعت قواى المبددة و استطعت الوقوف علي أقدامي بصعوبة بالغة , وتطلعت إلي الأمام و حاولت عيني إلتقاط أي شئ و لكنها باءت بالفشل فلم أبصر إلا الضباب .. لون الضباب تقشعر له الأبدان فهو يبعث في الجسد شعور مخيف رهيب و كذلك أقشعر و أرتعد جسدى وقتها .
خطوت بعض خطوات للأمام و كنت لا أرى موضع قدمى فتعثرت في مجموعة من الأحجار , استعدت توازنى بسرعة و استكملت خطواتى و مشيت لمسافة لا تتعدى بضعة أمتار ثم سمعت صراخاً عالي النبرة قادم من أمامى , وقفت و لم أدرى وقتها ماذا أفعل ؟ هل أتقدم أم أتراجع ؟ و قبل أن أتخذ قرارى لمحت ضوءا ساطعاً يقترب منى بسرعة كبيرة , بالكاد استطعت أن أبتعد جانباً عن مصدر الضوء المتقدم بسرعة كبيرة نحوي و الذي لم يكن سوى عربة جيش مصفحة ضخمة ، كانت تسير بسرعة عالية للغاية و لكن عيني لمحت – أم أحسبها خيالات – نجمة داوود مطبوعة و بارزة على جانب العربة المصفحة ، أخذني ذهولاً عظيماً .. أين أنا الآن ؟! و ما الذي أتي بعسكر صهاينة إلى هذا المكان المجهول ؟!
وقفت حائراً لفترة ثم قررت استكمل طريقي عساني أهتدي لمن يدلني على حقيقة أمري ، سرت صوب الصوت الإنساني الذي دوى بالصراخ منذ قليل ، كانت خطواتي متذبذبة ، و كيف لا تكون كذلك و أنا أسير نحو المجهول و لا أعرف ما الذي ينتظرني في سبيلي ؟!
تعالى في أذني ذلك الصوت الآدمي كلما مضيت قدماً في طريقي و لم أتبين هذا الصوت أبداً .. هل هو لرجل أم امرأة ؟ إنه أشبه بعويل أو صراخ أو استنجاد .. تسارعت خطاي ..ربما من قبيل الفضول أو حب الاستطلاع الذي يجري داخلي مجرى الدم ، تقدمت و عيني على قمة التأهب لاستقبال أول مشهد تستطيع أن تتبينه ، و ما هى إلا بضعة خطوات حتى وجدت نفسي في مواجهة حوائط متهالكة منها ما هو قائم و منها الذي يوشك على الانهيار ، و تطلعت ملياً فعثرت على مدخل ذلك المنزل المتهدم ، كان هنالك الكثير من الدماء في المكان .. الكثير و الكثير منها ، تغطي المدخل كله ، تعالى الصوت بقوة أكبر في أذني فأنتزعني من تفكيري و تأملي في المكان و ما به من آثار صراع دموي قد كان ، تمالكت نفسي و خطوت فوق الدماء و عبرت مدخل ذاك الدار و ولجت إلى الداخل .
حقيقةً لا أعرف ما الشعور الذي أنتابني عندما وقع بصري على أسوأ منظر رأيته في حياتي ، لا أعرف إن كان أصابني الذهول أم أنتابتني الشفقة أم ألم بي الخوف ؟! سرت في جسمي رعشة كالصاروخ هزته من أقصاه إلى أقصاه ، ثم تجمدت في موضعي لدقيقة و أنا أتأمل هذا المنظر الرهيب ، جسد ملقى على الأرض ، جسد لا روح فيه ... مغطى بالدماء من أوله إلى آخره و كأن نهراً من الدماء قد تفجر من شرايينه و طفق ينتشر في الأرض كالجداول ، ركزت بصري أكثر من ذلك في ملامح ذاك الجسد الملقى على الأرض في سكون فوجدته شاباً بدا من ملامح وجهه أنه لم يتجاوز العشرين بعد و كان يقبع في يده المكسوة بالدماء حجر قاتم اللون قد ارتخت عنه أصابعه الدقيقة و قد سال خيطاً متواصلاً من الدماء فوق ذراعه و امتد فوق يده و استكمل طريقه تحت الحجر الذي خضبته الدماء .
مرة أخرى أنتزعني ذاك النحيب من مشهد الشاب الذي تجمدت معه عيني و عقلي و كل حواسي و أدركت مصدر الصوت و كنت لم ألحظ ذاك الشخص الجالس على مقربة لما وقع بصري على الشاب المغمور بالدماء ، كانت شابة في مقتبل العمر .. في الثامنة عشر من عمرها أو يزيد ، كانت مرتدية ثياب أقرب لثياب الذكور منها إلى الإناث ، و تلف حول رأسها كله حجاباً عادياً أحاط به شالٌ فلسطينيٌ و لا يظهر منها إلا وجهها الجميل الذي تغطيه الدموع ، أنهار من الدمع كانت تسيل من عينيها ، تسيل بغزارة وبلا توقف و كأنها نابعة من قلبها لا من عينيها ، كان تنظر لي في رجاءٍ واضح و يشع من عينيها بريقٌ آخاذ على الرغم من الدموع المنهمرة ، بريق يكمن وراءه شئٌ خفي لا أعرفه ، كأنها تريد أن توصل إلى داخلي رسالة لكنها رسالة صامتة غير منطوقة ، تود أن تحكي عما حدث لها و عن مشاعرها و لكن لسانها لم يستطع – من الجزع و الهلع – أن ينبس ببنت شفة ، نظرتها استطاعت أن تلقي داخل عقلي و فكري رسالة تحوي كل ما لا تقدر على ذكره بالكلام ، أرادت أن تقول لي أن العدو الغاشم قد قنص شقيقها و أرداه قتيلاً ، أحسست في رسالتها بكل ما بداخلها من مشاعر و اختلاجات .. أحسست بغضبها و حنقها و حزنها و خوفها ، أحسست بحزنها و أساها على أخيها ، أحسست بجزعها و هلعها مما رأت نصب عينيها ، أحسست بخوفها مما يترقبها في المستقبل المجهول و قد أضحت وحيدة في تلك الدنيا الفانية ، وضعت في نظرتها تلك ضعفها و ووهنها و تعبها ... أحسست بذلك كله ، أحسست بمشاعرها و عواطفها بكل كياني ، و كأن جسراً قد أقيم بين عقلينا و نقل كل ما بداخلها إلى داخلى.
لم أعرف ماذا أفعل أو أصنع ؟ لم أعرف حتى كيف أواسيها ؟ عينيها كانت ممتلئة بالرجاء ، كانت تنتظر مني أن أقوم بأي رد فعل ، كانت تنتقل بناظريها بيني و بين جسد أخيها الراقد إلى جوارها ، و كلما نظرت نحو جسد أخيها يزداد بكاءها و نحيبها ، بدأت في التقدم ببطئ شديد نحو ذاك الجسد الطاهر الراقد على الأرض بلا حراك ، أحسست بأن قدماي تحملاني بصعوبة ، و عندما أصبحت على بعد خطوة واحدة توقفت و تطلعت إلى وجه ذاك الشاب الساكن على مقربة مني ، كان وجهه على الرغم من الدماء التي تغطيه كله مبتسماً و بدا كأن وجنتيه ارتفعتا لتكسوا وجهه تعبيراً ينم عن السعادة و السرور ، و كيف لا يسعد و قد رأى الجنة تفتح أبوابها لاستقباله ليخلد في نعيمها مع غيره من الشهداء ؟! تأملت جسده بتروي و رأيت ما لم أرَ مثيلاً له قط في حياتي ، الرصاصات اخترقت كل جزء في جسده لم تترك طرفاً أو جانب في بدنه الواهن الضعيف إلا و أصابته ، و الدماء تسيل من جسده و تصبغ ثيابه بأكملها باللون الأحمر الدموي ، من ذا الذي يجرؤ أن يفعل ذلك ؟! من الوحوش مفتقدة القلوب التي أتت أيديها بما أتت و رحلت سعيدة بما فعلت ؟! إنهم وحوش بكل تأكيد ، قد خلت قلوبهم – إن وجدت فيهم قلوب – من أي رحمةٍ أو شفقةٍ أو عطفٍ ، إنهم لا يعرفون معني المشاعر أو الحنو أو حتى الحب ، إنهم لا يمتون للإنسانية بأي صلةٍ ، فهم لا يعرفون إلا الدماء .. فقط الدماء ، إن الأرواح في تقديرهم كاللعب التي يمرح بها الصبيان ، لا تساوي عندهم شيئاً .
كل هذه الأفكار و الاختلاجات سرت في عقلي و أحسست بكراهية و غضب عظيمين جعلا الدماء تغلي داخل شراييني و أوردتي ، و شعرت بدموعي تسيل من عيناي ساخنة محملة بالألم لما حدث ، لم أحس بقدمي و أنا أهبط أرضاً لأجلس على ركبتاي ، و مددت يدي اليمني لأغلق عينيه و لمحت بريق سريع نفذ من منهما قبل أن ينغلقا إلى الأبد ، و تلمست ملامح وجهه بيدي و أنا أغلق عينيه ، كان شاباً جميلاً وسيماً صبوح بشوش الوجه و جبهته ناصعة البياض كبياض البدر وسط الظلام .
أغلقت عيني للحظة ثم فتحتها و كانت الدموع لا تزال تنهمر منهما و قد بللت وجهي كله ، و شعرت بحرقة فظيعة في عيني ، كنت لا أزال لم أستوعب الأمر بعد و لا يزال قلبي ينبض بسرعة عالية .
نظرت صوب الفتاة التي تجلس بجوار جسد أخيها ، و قد غطت الدماء ثيابها بأكملها أيضاً ، وجهها جميل أيضاً كوجه أخيها ، كانت تشبهه بدرجة كبيرة جداً و إن كانت عينيها أوسع و أجمل و لمحت فيهما نفس البريق الذي لمحته حين وقع بصري على عينيها أول مرة ، نظرت صوب عينيها فرأيتها تنظر صوب عيني من بين دموعها المتتابعة ، أرادت أن تقول شيئاً و لكن لم تستطع مرة أخرى و كأن لسانها قد ربط أو أن فمها قد أغلق بأقفال موصودة ، و لكني سمعت إحتكاك أسنانها داخل فمها من الجزع الذي لا زال يتملكها ، نظرت إليها بحنو و رأفة ، فأغلقت عينيها لبرهة ثم ألقت نظرة على أخيها ووجهت بصرها ببطئ نحوي و كأنها تتأملني ، ملأ عينيها تساؤل أحسست به بعقلي و قلبي .. عن مستقبلها .. عن الأمل الأخير الذي تعلقت به ... أين رحل النور الذي كان يملأ حياتها ؟! ... هل تركها في ذاك الظلام القاتم وحدها دون رفيق ؟!
نظرت إليها نظرة حملت عطف و مودة الدنيا كلها ، لعلي استطيع أن أواسيها أو خفف من أشجانها المتوقدة ، و لكنها لم تفعل شئ غير أنها سمحت لسيل من الدموع بالجريان على وجنتيها ، مددت يدي في تردد متخطياً جسد أخيها ، ووجهت أناملي صوب عينيها ، لم أدري لما فعلت ذلك ؟! و لكنه هاتف داخلي دفع بي لهذه الحركة ، و رفعت هى يديها و بسطتها نحو يدي بنفس التردد تقريباً ، ربما أحست أنني الأمل او النجاة أو شعرت بأني رسول القدر إليها ، اقتربت أيدينا لدرجة كبيرة ثم تلامست فأحسست بشعور لايوصف من الراحة و الدفء .. ثم خرجت من ذلك كله فجأة ، أختفى كل شئ ، أختفى الشاب الميت و الفتاة الباكية و أختفى المنزل المتهدم .. أختفوا جميعاً إلى الأبد .
وجدت نفسي ملقى على سريري الدافئ و قد تصبب العرق من جسدي كله من قمة رأسي و حتى أخمص قدمي ، سيطر علي القلق و التوتر ، أين كنت الآن ؟! أكنت في عالم الأحلام أم كان ذلك حقيقة ؟! جلست أفكر لدقائق فيما جرى معي ، لقد بدا ذلك كله لي حقيقة من أول لحظة و حتى آخر لحظة ، بدا لي الجسد حقيقي !! الفتاة حقيقية !! حتى عربة العدو الهمجي بدت لي حقيقية !!
نهضت من سريري و تطلعت إلى النافذة ثم تقدمت نحوها و نظرت إلى الخارج ، كان الظلام الدامس يغطي كل شئ ، فنظرت نحو السماء و رأيته براقاً متألق .. كان القمر في ليلة تمامه بدراً ناصع البياض ، يرسل أشعته البيضاء البراقة نحوي ، فهدأ قلبي و هدأت أنفاسي المتسارعة ...
.....
لقد رأيت البدر ...
رأيت الأمل ..