ابتسامة بريئة
محمود أحمد عاطف الشيخ
كنت في طريقي إلى المكتبة العامة ، وحين وصلت إلى مدخلها ، لمحت عينيّ طفلة صغيرة كانت تفترش الأرض جالسة ً على الرصيف في ذاك الجو القائظ و الشمس الساخنة التي لا يحتملها بشر ، كان أمامها قفص خشبي متهالك رُصَّ عليه عدد ليس بكثير من عبوات المناديل الورقية ، ملابسها بدن لي متسخة بالية مهلهلة ، ممزقة عند كتفيها و ركبتيها ، لا تعرف لها لوناً من كثرة ما طالها من البقع و علق بها من فضلات الطعام ، و تطل من وجهها الواهن ابتسامة بريئة ، فأعتقدت أنها تستعطفني لأشتري منها ، ترددت للحظة بين المضي قدماً في طريقي إلى داخل المكتبة أو الذهاب إليها ، لكن قلبي الذي تأثر حين رآها و اضطرب لابتسامتها ساقني إليها ، وحينما رأتني مقبلا ً عليها اتسعت ابتسامتها و ظهرت في وجنتيها غمازتين صبغتا وجهها ببراءة و جمال طفولي لم أرَ له مثيل ، ملت بوجهي ناحيتها و بسطت يدي إليها ممسكاً بجنيهاً ، فناولتني عبوتين من المناديل ، فرددتهما إليها ، فرفضت مشيرة بيديها في شدة ، و انقلب وجهها واجماً ساخطاً على ما اقترفت في حقها ، و كأنها تقول لي أنها تبيع لا تشحذ ، كلمتها معتذراً فلم تجب ، فنبهني لي شخصاً ماراً من ورائها أنها صماء لا تسمع و لا تتكلم .
رددت إليها عبوة واحدة واكتفيت بالتي معي ، ولم ألتفت إليها ، ومضيت في طريقي نحو المكتبة ، وقبل أن أتقدم عابراً المدخل التفت ناحيتها ، فوجدت أنها لا تزال تنظر إليّ ، وقد عادت إلى وجهها تلك الابتسامة المليئة بالبراءة والحنو واختفى غضبها وحنقها ، بادلتها الابتسامة و عبرت المدخل ، وجلست في ركن بعيد داخل المكتبة ، و مكثت قرابة الساعة و أنا أبحث وأتصفح وأكتب ، وحينما انتهيت لملمت أوراقي ورتبتها داخل حافظة كانت معي ، ثم أخرجت من حقيبتي ورقة بيضاء ناصعة البياض وقلم من اللون الأسود الفاحم ، وبدأت في تذكر ملامح تلك الطفلة الصغيرة ، وطفقت أرسم تقاسيم وجهها وملامحها الأخآذة ، أنفها الصغير الجميل .. عينيها النجلاوين الواسعتين .. لونهما العسلي الهادئ .. وجنتيها .. غمازتيها .. شعرها الأسود البهي الذي جمعته إلى الخلف بواسطة قطعة من القماش الأحمر البالي .
انهمكت في رسمها ولم أشعر بمضي الوقت ، وعندما انتهيت من رسمها ، نظرتُ إلى اللوحة ، كانت جميلة ورائعة ، لكنها في واقعها أجمل وأرق وأروع بكثير ، وضعت اللوحة في الحقيبة وأدخلت فيها كل أوراقي المتناثرة على الطاولة ، وخرجت من المكتبة ؛ حتى ألقي نظرة على الفتاة قبل عودتي إلى منزلي ، ولكن فور خروجي نظرت صوب موضع الفتاة ، لقد كان المكان خالياً إلا من قفصها المتهالك ، فوقفت لبعض الوقت أتلمس بنظري يميناً ويساراً لعلني أجدها أو حتى ألمحها ، فلم يتيسر لي ذلك ، فسرت عائداً إلي بيتي على أمل أن أري تلك البراءة وذاك الجمال مجدداً .