وخزات الضمير

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

جامعة الملك عبد العزيز

كلية المعلمين بمحافظة جدة

اجتمع ثلاثتهم نهاية الأسبوع بعد أن رتّبوا للقاء بعد انتهاء نوبة العمل في إحدى الشركات .كانت تربطهم علاقة حميمية صهرتها التجارب على مدى الأيام.اختاروا أحد المقاهي الشعبية المطلة على المدينة التي تسبح في الأضواء ، و اقترح أحدهم أن يكون لقاؤهم جلسة مكاشفة عن الخطايا أو البقع السوداء في حياتهم و التي لا يعرفها الآخرون ، و أصر أن القيام بذلك و تنفيذ تلك الفكرة قد تمسح عن القلوب ما ران عليها من شوائب و قد تكون بداية لأفعال خيّرة قادمة تجبّ ما قبلها.

 لاقت الفكرة استحساناً و اتفقوا ان يظل حديثهم حبيس صدورهم.تململ الثاني و تحدث بصوت فيه حشرجة ربما كان سببها عشرات السجائر التي اكتوى بدخانها فطلب كوباً من الماء. حضر النادل بسرعة و ناوله ما خفف من حشرجته .

 " في سالف العوام كنت أرافق والدي المرحوم في رحلاته البرية للقنص و قد كان ماهراً في الصيد و كان لا يخطئ هدفاً و خاصة الأرانب البرية أو الشنانير ، و قد تعلمت منه دقّة التصويب و حسن اختيار الفريسة. و عندما ذهبت إلى إحدى الدول العربية عملت مرافقاً لزوجتي و كان تعيينها في منطقة بعيدة عن المدينة و سكنا في قرية على مقربة من إحدى المناطق الحرجية و كانت تكثر فيها الحيوانات البرية و القردة بمختلف الأنواع. لم أجد ما أتسلى به سوى عمل خفيف في إحدى البقالات و لساعات محدودة إلى حين عودة صاحبها من وظيفته الحكومية ، و حتى لا يسيطر علي الملل كنت أستعير خرطوش صيد من احد الأصدقاء و أعود بعد ساعات و في حقيبتي بضعة أرانب أو طيور ، و كنت أعطي صاحب الخرطوش بعض ما تيسّر من صيد و احتفظ بما تبقى ليكون غداء أو عشاءً على المائدة في اليوم التالي.

 و ذات شهر من الشهور أجدب الموسم و لم أجد ما أصطاده ربما بسبب هجرتها لأماكن أخرى أو لأسباب لا أعرفها . و بينما كنت أتمشى في أطراف الغابة بعد رحلة أخفقت فيها حتى في صيد عصفور صغير ، سمعت حفيفاً بين الأشجار ثم استرقت السمع فإذا بأصوات غريبة تقترب مني ، انتابني خوف شديد ، فقد ظننت أنه حيوان كاسر. دققت قليلاً فإذا بي أقف قبالة نوع من القردة المسمى " القرد الأبيض " سبق أن اطلعت عنه في إحدى الموسوعات ... اقتربت قليلاً ، فقد كان متشحاً بالبياض في منطقة الوجه و الكتفين ، أما بقية الجسم فكان يغطيه اللون الأسود ، تأملت عن قرب فميزت القردة الأم و هي تحمل فوق ظهرها قرداً صغيراً رائعاً. تحسست خرطوشي و تأكدت أنه جاهز للانطلاق نحو الهدف.

 " .....لم يعد أبي يوماً خالي الوفاض من رحلة قنص ، و كان يعتبر ذلك طلقة الرحمة على الصياد ،تهيأت للرمي و ما هي إلا لحظات حتى كانت القردة الأم مخضبة بدمائها ، و ما هي إلا دقائق حتى لفظت أنفاسها الأخيرة وانتهى المشهد بصياد يعود إلى بيته يحتضن قرداً أبيضاً يعاني من صدمة الفراق و من دفء لم يعهده!".

 صاح الآخران و قد صعقتهما القصة " يا قاسي القلب ...يا قاتل القرود....الويل لك".

-        " أقسم أنني كنت احرص على إرضاعه بالقنينة و أشتري له الحليب على مدى أشهر حتى اشتدّ عوده فأين الجريمة ؟" قال مدافعاً.

-        لكنك مهما بلغت في حنوّك فلن تكون بحنان قردة هي أمّه ! ضحك ضحكة صفراء و أردف قائلاً " بصراحة ، لقد وخزني ضميري على مدى أعوام و ظل الإحساس بالذنب يلاحقني كظلي فلا اجد منه خلاصاً و لم تخف وطأته حتى جاء اليوم الذي انتهى عقد عمل زوجتي في ذاك البلد و عدت للوطن و لم أحمل خرطوشاً بعد ذلك قطّ .

مدرس لغة في كلية التربية في جامعة الملك عبدالعزيز