والدي هو الملك

بالنسبة لي على الأقل

إحسان الفقيه

قال لي وقد بدأ بالتسخين لرقصة شديدة الاندماج بموسيقى صاخبة أطلقتها جوقة من الذين يظنون أنهم سيدخلون التاريخ من أكبر جحر للفئران -يقود الى بطن كتاب كتبه مجموعة من المرتزقة الأوفياء لكل ماله علاقة بالباطل- من مجرد نزقهم الحاد من مقالة إنجليزية ترجمت وتحولت الى مقالة لكاتب نزيه حول ممارسات خاطئة وتجاوزات لم تعُد تُحتمل لكبار القوم.. قال لي بعد ردح طويل ومزاودات لا تنتهي.."هم تاج على رأسك يا نكرة.. وهو سيّدك وسيد كل أهلك.. شئتي أم أبيتي، أبايعتي أم لم تبايعي، أأعجبك أم لم يعجبك هم أسيادنا ورغما عن عجرفتك يامن لستي بالأصل من هنا.."..

ومع اني بالاصل من هناك او هنا -لا يهم- الا انني لم أُركِّز او لم يك سعيي حثيثا لإثبات هذه النقطة بالذات.. و قلت له: لا أحبُّ التيجان ياعزيزي .. ولا أضعها فوق رأسي ولا أقتنيها .. حتى في يوم زفافي لم ترُق لي.. فوضعت طوقا من ياسمين بلدي.. وبحثت قبلها عن إكليل من ورق الغار واكتشفت انه لا يُباع في السوق وكان عليّ ان أستورده قبل حفل زفافي بأيام..

وليس لي ملك الا ذاك الرجل.. أتراه ؟.. هاهو ذاك هناك؟ يسكن متوسّطا اسمي الثلاثي .. هاهو ذاك بكامل وقاره.. شيبه ووجعه وعرقه .. يتّكئُ على ستة عقود بلّلها التعب وأثقلتها آلام في الظهر وأخرى في الساق..الا تراه بكامل نزقه وبساطته وعفويته التي ورثتُها عنه يملأ نبرة صوتي بوضوح شديد..

قال لي وبسخرية: وما وجه المقارنة، نحن نتحدث عن الــــــــ( ...) ابن الذين أسسوا ونهضوا وبنوا ودعموا وساعدوا ومنحوا وتصدقوا وحاربوا وانتصروا ورفعوا راياتنا و و و و و قبيلة واوات تلتها وكأني في حصة نصوص ودرس اليوم خاص بالمُعلّقات الجاهلية..

قلت له بابتسامة واثق : هو والدي الذي بايع ملك بلادك بالتبعية طبعا فجدُّه كان ضمن الذين بايعوا فوثّقوا عهدهم او ميثاقهم، او عقد مبايعتهم على أنهم "أسياد يحكمهم أسياد لا عبيدا يحكمهم أسياد".

ذاك الأب الجميل الذي لفحته شمس الجزيرة العربية مثلما مزّقه فراق جدتي ثم جدي تباعا دون ان تُصافح عينيه جثمانهما قبيل أن يلتهمهما الغياب.. تنازل عن حلمه في دراسة الهندسة الكهربائية بعد ان كان متفوقا في مدرسته وقد ورثنا عنه العبقرية الحسابية وتفوقنا بالرياضيات مثله تماما.. تخلّى عن كُلِّ أحلامه كي نكبر ولا نلملم فتات الولائم عند بوابات القصور ولا نلعق أحذية السلاطين ولا نقود كلاب الزعماء للتنزّه في حدائق لا يدخلها أمثالنا الا إن كُنّا خدما..

وبدل ان ينقل الموجات الكهربائية بلا أسلاك وهو الحلم الذي راوده كما راود كبار المهندسين استطاع ان ينقلنا من مرحلة الى أخرى الى أخرى  بلا تنازلات قادت أعداء كرامة الانسان وخصوم الأخلاق الى هاوية الثراء الفاحش فيما نحن نشكر الله على الستر وبياض العرض وان ثبّتنا لننبُت في أرض طاهرة لم تستسقي غير الله ولم يدخلها معول الا بمرضاة الله.

لا أستبعد انه لو درس الكهرباء لتفوق على المهندس الفرنسي "بنيوليه" الذي حقق حلمه او كاد قبل عشرة اعوام بتوصيل الكهرباء بلا اسلاك.. ربما اقول هذا من باب كل فتاة بأبيها معجبة وهو أمر مشروع كوني ابنة رجل عظيم بالفعل من وجهة نظري على الاقل..

لم يتحدث والدي يوما بالسياسة علَناً وقد فعل ذلك بدافع أُبوّته لا خوفه.. لكنه مُحلّلٌ سياسي بارع ومتابعٌ نهِمٌ ورجل نزِقٌ إن تعلّق الأمر برموز كان لهم مواقف شجاعة ولو شكّكت بهم ألف مقالة مأجورة وألف حوار مُسيّس وموجّه ومثير للسخرية.

لم يكن والدي يوما مناضلا مشهورا ولا يملك الا بيتا في القرية وقطعة أرض يزرعها أخوتي الصغار بصلا ، بازلاء، فول أخضر، حمص احيانا، وبعض شجرات الزيتون ورثها عن جدي رحمه الله.. ولكنه ملك طفولتي كلها ويملك أحلامي كلها وهو الشاهد الأهم والأصدق على رحلتي الطويلة مابين النضج والتخبُّط ومابين وقفتي الكاملة والانكسارات التي لم تكن كأي انكسارات..

بين يديه الخشنتين الكبيريتن جدا كما هي أكُفُّ الكبار .. كبُرت .. وفي بيته الذي ينعُم بنور الشمس ودفء الذِكر ورائحة الزعتر ولبن الجميد ترعرعت وتفتّقت أسرار ارتباطي بكل ما له علاقة بالفكر والأدب والثقافة والمعرفة.

كنت أبحث في جيبه عني كل يوم بعد عودته من صلاة العصر.. عن لهفته حين يُداريها في ملامح أبٍ صارم وجاد لأجد اشتياقه لضحكتي على شكل "علكة بالفواكه" او "قطعة حلوى" او "بسكويت مملح" لأعرف أني كنت على باله رغم تعبه وانشغاله فقد اعتدت ان يكون لي شيء ما في جيبه مهما كانت الظروف ومهما كان الارهاق ..

لم يقل لي يوما أنه يُحبُّني .. لم يربُت على كتفي.. لم يُمسك شعري.. لم يحملني ويُقبّلني او يضمُّني بدفقة أب.. ولكني أجزم انه يحبّني ويشتاق لي ويفخر بي ولكنه ينتمي الى ذلك الجيل من الرجال الذين ولدوا في زمن الهزائم والتناقض والوجوم.. من اولئك الآباء ذوي القامات العالية جدا والذين يريدون كل شيء في مكانه ويريدون همزة فوق كل ألف وفتحة فوق المفعول ..

والدي لم يكن مُناضلا كثير الكلام ولم يكن كاتبا يجيد البلاغة ولكنه كان يجيد انتقاء الكتب ببراعة ذوّاقة فيُغريني لقراءة ما تيسر له و لي الى ان كبُرتُ ووجدتُّ أني أجُرُّ معي صفّا طويلا من أسماء الكبار وحكايات المجد والحرب والحب والفراق والأمومة والهزائم وأحلامٌ ومشاريعُ كبرى قد حقق أصحابها من مُفكري ومنظري القرن المنصرم الكثير من الخيبة وألهمونا بعدها اليأس والشعور بلا جدوى التنظير والفكر كذلك.. بعد ان تحولت اي دعوة للاصلاح الى تمرّد وكفر وفجور واي مطالبة بالنهضة نزعة مثالية لتحقيق مدينة فاضلة لم ولن تكون لأن ابليس المزعوم يجب ان نُعلّق عليه اخطاء البشرية كلها وان نتّكل على عراقيله في حال لم نصحو مبكرا للعمل او لم نمشي في الطريق الذي يقود الى الألف ميل بالخطوة الأولى الكسولة والمغشيُّ عليها من حدّة النعاس.. ".

هذا هو الملك عندي ... ولا يعنيني ملكُك ولا تهمُّني تيجانك وعلى رأي جدتي رحمها الله.. فليُلبّسك أسيادك عباءة الجوخ بعد هذه المُرافعة التي اعترف انك كنت بارعا في ترديد ما تم تليقنه لنا بالمدارس حول الولاء والانتماء والمبايعة ووجوب الطاعة .. واللجوء الى الدين والاحاديث المأثورة ان تأزم الوضع معك ووجدت ان قرائنك ضعيفة وحججك غير منطقية.. الا ان قضيتك ياعزيزي ومعي انا بالذات ومن هم مثلي – خاسرة وخاسرة ولن تفوز الا بعلاوة لا تكفي ثمن خاتم نحاسي لزوجتك او نجمة اخرى لن تقدم وتؤخر في تاريخك شيء...

قلت له ذلك وأنا اتابع الرسائل الالكترونية في هاتفي فرفعت رأسي ولم أجده.. كان قد ذهب او انسحب دون استئذان حتى لو من باب الذوق..

أما انت يا والدي العزيز.. وقد قاربت ستُّونك على ولوج كوكبك الوقور وسماواتك شديدة القرب من الله.. وقد آن أوان العودة الى القرية والتنعُّم بثرثرة الصحب وضجيج البسطاء أريد ان أخبرك بأني أحبك أوّلا كما تحب اي ابنة والدها وتعجب به وبمسيرة حياته وتعتبره اهم الرجال وافضل الرجال وأكثرهم بطولة وشجاعة.. اريد ان تعرف ايضا اني لست ناقمة على خمس أصابعك الغالية التي كانت تُورّدُ خدّي بصفعات خوفك عليّ ومني .. والتي لم تتجاوز عدد شعرات رأسك.. -كونك فقدت اغلبه- فأجد نفسي أكثر تأدُّبا حين أخبرك انهن بعدد شعرات رأسك لا رأسي...

لست حزينة او غاضبة منك لأنك تمسّكت بي وقاومت اي مطالبة لإقصائي عنك.. وأشكرك انك فعلت ذلك..

ستفخر يوما بابنتك الكبرى التي ظننت انها صبئت وغردت خارج السرب ونثرت حبّات شغفها بذورا في حقول الشوك..

* والدي ليس مناضلا كما كان والد احلام مستغانمي ولم يكن من اثرياء قومه وزمنه كوالد فدوى طوقان ولم يكن مديرا لمجلة كما هو والد مي زيادة ولكنه رجل مثقف، نزيه، صادق، صارم وعنيد، نزق وحكيم ايضا ومع كل ذلك كان ولا زال أبا رائعا وجميلا وأفخر به وسيفخر بي ذات حُريّة واستقلال.