النظارة السوداء

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

جامعة الملك عبد العزيز

كلية المعلمين بمحافظة جدة

قالت الفتاة و في حلقها غصة خانقة:منذ أن تزوجت  انتابتني مشاعر الندم على تلك الخطوة ولم أكن أدري في الأصل كيف طاوعني عقلي بالارتباط به زوجاً ، مع أنني  كنت أعلم أن ذلك تم في ظروف عائلية ضاغطة و تحت اصرار أمي العجوز بأنها تريد أن تفرح بي قبل أن يباغتها الموت .أحاول أن أتذكر زيارته الأولى فقد جلس على كنبة فاخرة من الأثاث الذي اشترته أمي على حسابها الخاص–حيث كانت تصر على الظهور أمام العريس القادم بأبهى حلة و أرقى أثاث  ، فالانطباع الأول كالحب من النظرة الأولى يعشعش في القلب ...جلس أبي في الجهة المقابلة للعريس  و رحب به بابتسامة عريضة ، كان العريس جامداً كتمثال لا يتحرك له جفن ، يجلس جلسة الواثق و يهز رأسه كالحكماء في رده على  بعض الأسئلة بإيجاز شديد ، ثم بدأ يحدق في كل شئ و يتأمل في دقائق الأمور...و لما تبين انه ميسور الحال و يحمل مؤهلاً جامعياً- جاءت الموافقة سريعاً حيث كان من عائلة معروفة في المنطقة.

  بعد الزواج بدأ القلق يساورني و الشك يراودني بسبب بعض التصرفات المستهجنة...فقد كان يصر على التردد على المطاعم الراقية في بعض أحياء المدينة الثرية ،كان يصطحبني معه و لا يأبه بالتكاليف ،كان الخروج إلى تلك الأماكن يشعره بالنشوة و الحبور . غير أن ما أثار فضولي و غضبي أنه كان مقلاً في حديثه حيث كان في معظم حالاته مثل ناسك بوذي وصل إلى حالة (النرفانا)** و كأنه يعشق المكان أكثر مني ! كنت أطرق الطاولة بطرف ملعقة أو شوكة حتى ألفت انتباهه و أعيده من عالم شروده إلى حيث أنا ، غير انه كان مراوغاً ماهراً يتقن فن التهرب

-      لا شئ...مجرد خاطرة هبت في أجوائي و سحابة ظللت ابصاري

-      أنا لا أفهم شيئاً ، عن أية سحب تتحدث و أنا بجوارك ؟ تساءلت مستنكرة

شعرت أننا فقدنا لغة الحوار الصادق ، و حيث أن أجوبته كان يلفها الغموض ، وبعد أن تكررت الحالة قررت أنه آن الأوان لكسر بعض العظام! بدأت نبرات صوتي تعلو رويداً رويداً ، حاول تهدئتي بطلب المزيد من العصائر الطبيعية ، نادى على الجرسون فجاءت فتاة تعمل نادلة في المطعم، كانت ممشوقة القوام ، عسلية العينين ذات جدائل ذهبية خفق لها قلب زوجي- هكذا خيل إلي ، فتظاهرت أنني  مشغولة بشئ ما ...غير أنني لمحت بطرف عيني حالة الانسجام بينهما و دقت طبلة أذني عبارات الود و شهقاته ، كظمت غيظي حتى انصرفت النادلة الحسناء لإحضار الطلب .وعندما خلا الجو لنا قليلاً بدأت الحوار الساخن...

-      يبدو يا زوجي العاشق أن الطبع غلاب كما يقولون...إن عيونك الزائغة ستحرق الأخضر واليابس وقد تعصف بعش الزوجية إن لم تضع حداً لذلك.

-      هوني عليك يا امرأة ! ما خطبك ؟

-      لا أزال أذكر أنه عندما كنت خارجة مع نفر من  زميلاتي من مكتبة الجامعة وعندما رأيتك أول مرة في حياتي..كنت ترمقني بعيون جائعة ، تحملت سهام عيونك و تقبلتها سيما و أنك لم تتلفظ بكلمة واحدة و لم تقم بأعمال مشينة أخرى .قلت حينئذ لعله شاب معجب  فخفق قلبي.إلا أنه بعد الزواج بعامين – ما زلت وحشي النظرات و ليس لها مجال حيوي محدد.

-      أنا لا اخفي عليك أنني أعشق الجمال و أضعف أحيانا إذا ما هبت نسائمه!

-      لا تبحث عن الأعذار- إذ لم تعد مراهقاً طائشاً، و لا يمكن أن تطلق العنان لنزواتك بلا رادع ، نظراتك تنطلق كالسهم الرائش نحو الجنس الآخر بلا وعي أو حياء أو مراعاة لمشاعر زوجة أو حتى مرافقة ! للأسف أنت لا تفرق بين شقراء فاتنة أم سوداء فاحمة ...المهم أنها من الجنس الآخر ! كنت ألاحق نظراتك الهاربة الباحثة عن امرأة ما جالسة تحتسي فنجان قهوة أو تتناول وجبة طعام. كنت أعتصر ألماً و أشعر أن شيئاً ما في داخلي يتحطم شظايا و يتلاشى . و لمزيد من الصراحة أقول لك إنني  أشعر بأن خروجك معي لم يكن إلا غطاءً وان ارتيادك لهذه الأماكن إنما جاء بحثاً عن الجميلات.

-       هوني عليك يا امرأة ! فان قلبي ما زال لك محباً رغم أني أراك بالغت في نسج الحكايات و الأساطير و ألبست نظراتي البريئة معان لم أقصدها البتّة...إني برئ كما نظراتي و أحب الجمال حيثما حل و هذا سر اختياري لك زوجة لأنك كنت جذابة و ما زلت ، و لو لم أعشق الغيد الحسان لما لمحت طلعتك البهية من المكتبة. في الأسابيع التالية شوهدت امرأة فاتنة تمشي مع زوج يلبس نظارة سوداء!