مروان وتقلبات الزمان
البراء كحيل
في قديم الزمان كان هناك شابٌ اسمه مروان يعيش في بلدةٍ صغيرةٍ وكان هو الوحيد والمدلل لوالديه فكل ما يطلب متاح غير ممنوع وكل ما يتمنى موجود
وهكذا شبَّ الغلام على نعمة عظيمة ومالٍ وفير فكانت طفولته مليئةً بالسعادة خالية من الشقاء والحرمان ,ولمّا بلغ الغلام الخامسة عشرة من عمره مَرض أبوه مرضاً شديداً وفارق الحياة , فأصبح مروان وحيداً مع أمِّه التي يحبها حباً شديداً ومطيعاً لها طاعةً عمياء فهو لا يخالف لها أمراً ولا يرفض لها طلباً .
وتمر الأيام ومروان يعمل على مال أبيه ويحافظ على تجارته بمساعدة أمِّه وتوجيهاتها له حتى إذا بلغ العشرين من عمره جاءتْ والدتَه المنيةُ وفارقت الحياة.
وبينما هي على فراش الموت ومروان بجانبها يذرف الدموع لشعوره أنها ربما لحظات الوداع أمسكت أمّه يده وقالت : أي بني أوصيك بهذه الوصية وأتمنى أن لاتنساها أبداً .فقال مروان : أبشري أمّاه , فقالت الأم) : بني كن مع الله في السر والعلن واحذر الشرك والمعصية , احفظ الله يحفظك ولا تضيّع حقّ الله حتى لا يضيعك)
فقال الغلام والدموع تغطي وجهه : أبشري يا أمّاه لن أنسى وصيتك ما حييت, وتموت الأم ويدفنها ولدها بدموعه وهو لا يعلم أيدفن روحه أم أمّه لقد كانت النور الذي يبصر به والأذن التي يسمع بها واللسان الذي ينطق به , لقد كانت أمه القلب الحنون والصدر الرحيم الذي يتكئ عليه إذا ما ألمّ به كرب أو أصابه نصب ,لقد كانت أم مروان لولدها الشمس التي تضيء له الدرب والسراج الذي يعّرفه الطريق , وهذا حال كل أمٍّ وما أعظم مصاب من فقد الأم .
ويعود مروان إلى داره حزيناً مطأطئ الرأس كيف لا وقد فارق أغلى الأحبة.
ويدخل الدار وتبدأ الذكريات الجميلة تتطاير أمامه حتى شعر بأنَّه سيفقد عقله من كثرة الحزن فهو مازال غلاماً صغيراً لم يعتد على العيش وحيداً بلا عائلة
ويفرّ مروان من بيته هارباً يسير في طرقات البلدة يحاول نسيان ما ألمّ به من خطب جلل . لكن محاولاته باءت بالفشل فألمُ الفراق وذكريات المنزل والعائلة لايمكن نسيانها , لذلك قرر بيع المنزل وشراء منزل آخر حتى لايعيش على أطلال الماضي وذكريات الطفولة
وتعود حياته بعد مدة من الزمن لطبيعتها فيواصل التجارة والبيع والشراء كان مثابراً على صلواته وعباداته يُضرَب المثل بأخلاقه ً ينفق من أمواله في السر والعلن
لكن تأبى شياطين الإنس والجن أن تذر العابد في محراب عبوديته والراهب في صومعته,
فنراه وقد أحاط به بعضُ رفاق السوء حتى استطاعوا إيقاعه في وحل المعصية , ومن سقط مرة هان عليه السقوط ومن عصا مرة استساغ الأمر , فالمعصية صعبة مرةٌ في البداية لكن لا ينفك الشيطان يغريه بالتكرار , ويكون الأمر على شياطين الإنس والجن في المرة الثانية والثالثة أهون وأيسر .
وهكذا كانت حال مروان فقد زلت قدمه مرة وبدأت مع تلك الزلة صفحة جديدة من حياته.
صفحة مدادها القبائح والذنوب وسطورها الخزي والعار , لقد تغيرت حياة مروان من شاب صالح إلى شاب هجر الصلوات وترك الصيام والعبادات وأصبحت حياته كلها لهو ولعب وهزل
وتمر الأيام والمعاصي تتجدد والذنوب تتراكم ويضيع ماله وثروة والده ليجد نفسه أجيراً عند أحد التجار بعد أن كان شيخاً للتجار فيا عجبي ممن ضيع الأمانة وخان العهد , ورغم ماألمّ به من فقر وعوز فمازال مصّراً على المعصية يمشي في طريق الرذيلة
حتى كان ذلك اليوم الذي غيّر حياته وأعاده إلى طريق الحقّ والصواب , صوتٌ من أحد منازل القرية يزلزل كيانه وآية من آيات القرآن تعيد له توازنه
قال الله تعالى :وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ لقمان14
ياالله أحسّ برعشة في جسده وأصبح يمشي هائماً كالمجنون فقد ذكّرته هذه الآية بوصية والدته الحبيبة التي نسيها وسط هذا الطوفان الذي كان يعيش فيه
يا بني كن مع الله في السر والعلن وحذار من الشرك والمعصية, احفظ الله يحفظك ولا تضيع حقّ الله حتى لا يضيعك الله
فبدأ مروان بالبكاء والنحيب وبدأ يسير ولا يدري كيف يسير حتى وصل إلى باب المسجد والمؤذن يؤذن لصلاة الفجر والإمام قادم فأقبل مروان عليه وبدأ يبكي أمامه ويسأله هل يقبل الله توبتي بعد عظيم ذنبي فيجيب الإمام : قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ الزمر53
ومع هذه الآية تبدأ صفحة جديدة أخرى من حياة مروان فبعد العصيان وتراكم الذنوب يعود مروان إلى رحاب الإيمان رجلاً جديداً طاهراً وكأنه ولد من جديد , يعود مروان للعمل والكد والتعب ويهجر رفاق السوء ويصاحب الأخيار من العبّاد والنسّاك حتى استطاع أن يعيد ثروته وثروة والده ويعود من الأثرياء (فلا بدّ للحلال أن يثمر وللحرام أن يمحق النعم ).
وفي أحد الأيام تذهله فتاة جميلة جاءت تزور متجره بصحبة والدتها .فلقد كانت مثالاً للأدب والحياء والجمال, فوقع في قلبه حبُّ الفتاة وقرر خطبتها فسارع للسؤال عنها وعن أهلها وعائلتها فهو لا يريد إلا صالحة تقية نقية ,وبعد السؤال والاستفسار علم مروان أنّ الفتاة اسمها حسناء من كرام القوم وأحسنهم خُلقاً ,استشار مروان شيخ المسجد في خطبتها فبارك له اختياره ووعده بالذهاب معه لخطبتها , رحّب والد الفتاة بهما وأكرمهما, لكن ماذا كان جوابه عندما عرف طلبهم؟؟؟
رفض الوالد رغم الإلحاح الشديد من الشيخ بحجة أنّ مروان سمعته سيئة وله ماضي معروف فهو لا يريد أن يزوج ابنته الوحيدة لشاب طائش لا يعرف مصلحته , وتأثّر مروان كثيراً من رفض والد الفتاة ولم يستطع نسيانها .وكذلك كانت حال حسناء التي كانت ترى في مروان الشاب الصالح التقي الذي تحلم به كل فتاة مؤمنة طاهرة
فقرر الشيخ الجليل العودة مرة ثانية لعلّ الله يفرّج همّ مروان على يديه
ويسرع الشيخ ليزفّ بشرى قبول والد حسناء لمروان الذي غدا طائراً يحلق في جو السماء من الفرح والسرور وكذلك حال حسناء لما ُزفّ إليها الخبر , وتقام الأفراح لزفاف العروسين
وتعمّ البهجة والفرحة قلبيهما بعد طول انتظار
ولكن فرحتهما لم تكتمل !!!! .
ففي ليلة الوصال ينادى مناد لقد دخل التتار البلدة وبدؤوا يقتّلون الآباء والأبناء وينهبون الخيرات , فينهض مروان من سريره فزعاً وجلاً ويطلب من زوجته تجهيز نفسها لإيصالها إلى أهلها ليزود عن القرية وأهلها , ولكن يعترضهما فرسان التتار قبل وصولهما ويبدأ مروان القتال وزوجه إلى جنبه يحميها برمش العين , ولكنّ الفرسان تكاثروا عليه حتى سقط الفارس على الأرض مضّرجاً بدمائه , وبرمح غادر تسقط حسناء فوق زوجها شهيدة لترتفع روحهما إلى السماء ويكون هناك العرس الحقيقي فإن عجزا عن الوصال في الدنيا الفانية
فهناك بإذن الله الوصال الأبدي في جنّات عدن . ويُهْزَمُ التتار ويخرجون من البلدة صاغرين أذلاء وفي الصباح يُدْفَنُ مروان وزوجته بجوار بعضهما ليكونا رفيقين في القبر إذ لم يقدر الله لهما رفقة الحياة.