وفاء بلا حدود

إيمان شراب

[email protected]

لقد طال انتظاري  وقلقي .. منذ الأمس وأنا أنتظر خبرا منك يا حمزة .. منذ الأمس دخلت زوجتك المشفى  ، لقد تعذبت المسكينة في الولادة .. كان بطنها كبيرا لدرجة غير طبيعية ، وكم مرة قلت لك يا حمزة إن وضع زوجتك غير طبيعي ! ولكنك لم تهتم !

  اللهم هوّن عليها وفرّج كربها وسلـّمها وسلـّم جنينها !

لن يرخي توتر أعصابي إلا الكتابة ، فتعال يا قلمي وساعدني أفرغ قلقي ، تعال أمليك  حتى يأتيني الخبر، ولتكتب سطورا مدادها نور ورحمة .

في ذلك الصيف الحار البعيد الذي زاد من حرارته ، ما اعترف به أحمد فزلزل زوجته وزلزل أركان البيت ! خرج بعدها غضبان لا يدري أين يذهب ولا يلوي على فعل شيء.

وقف في الشارع برهة والتفكير مشوش ، لمح جارا قادما من غير بعيد ، أسرع وركب سيارته يختفي ويخفي معه وجعه ، وحرك السيارة مسرعا قبل أن يصل الجار ...

وكان قد ترك المنزل بعد أن انطفأ نور ُ نور ٍ : زوجته ،  التي انهارت بعد معركة شديدة  معه،  ودخلت في نوبة بكاء لم تستطع بناتها الثلاث إيقافها لا برجاء ،  ولا بمسح دموع ، ولا بماء،  ولا حتى بالرعب الذي بدا في عيني الصغرى ذات السنتين والتي أخذت تصرخ صراخ الخائف مرة ، وتسكت أخرى سكوت المهدَّد !

وأخيرا ، ولما تعبت من البكاء ، انتبهت على بناتها يحطن بها وليس في عيونهن إلا علامات تعجب واستفهام !

لم تستطع ضمهن إلى صدرها ولكنهن فعلن ، فاحتوين والدتهن بحنان ورحمة ، فرفعت يديها الثقيلتين جدا ومسحت على رؤوسهن ولم تـُطـِل ، فقد سرى مفعول الحبة المنومة سريعا ، فارتمت على سريرها ، وظلت البنات حولها حتى نامت .

عاد الأب إلى المنزل بعد اتصال من ابنته الكبرى سماء ذات الست عشرة سنة ،  وحضر مسرعا لأنه لم يبتعد أصلا عن أمام البناية .

قال مخاطبا سماء :

نعم أنا تزوجت ، ولكن ليس لأنني لا أحب أمكن أو لأنني لا أحبكن ، فهي وأنتن الأجمل والأغلى ، أنتن أزهار ربيع لونت حياتي القاحلة ، وأنتن ابتسامات قهرت أحزانا كثيرة واجهتني أنتن ظلال وارفة حمتني من حرارة الصعب ، أنتن نسمات لطفت لياليّ  وعطر زكـّى أيامي ..

أنتن كل الأشياء الأجمل والمعاني الأحلى والأحاسيس الأرق ...

أتفهمين يا سماء ما أقول ؟

نظرت إليه سماء لتسأل ، ولكنه تابع : لماذا إذن تزوجت ؟

أولا يا ابنتي ، تعلمين أنني لم أرتكب حراما ! ما رأيك ؟

سماء ولم يعجبها القول : صحيح !

الأب : ومع ذلك لم أخطط ولم أفكر حتى بيني وبين نفسي بالزواج من ثانية .

سماء : إذن يا أبي ؟

الأب : إذن هو سرها ولا أستطيع أن أبوح به إلا إذا سمحت لي .

صمت قصير طويل ، ألقى بعده ابتسامة دافئة حنونة ، وحمل ابنته الصغرى بيد ، وأمسك يد الوسطى بالأخرى ، وتعشى معهن ثم نام إلى جوارهن في حجرتهن .

الفجر يؤذن ، فيذهب ليطمئن عليها ..على نور.. وفي القلب شوق ولهفة ، ولكنه لم يجدها في سريرها !

وقبل أن يشتد قلقه عليها ، وجد ورقة كتبت عليها بخطها الذي ظل جميلا حتى مع حزنها وتوترها : أنا في بيت صديقتي حنان .

آآآه يا نور ، آه يا زوجتي ! كيف أرضيك ؟ في غاية اللطف والوداعة والرقة أنت ! ولم أرك قاسية هكذا يوما !

ماذا تقول يا أحمد ؟ فقد كذبت عليها ! كم أكدتَ لها أنك لن تتزوج يوما !! وقلت إنك مسافر في رحلة عمل ، وأوصتك بالهدايا ، فعدت لها بزوجة !

لقد طعنتها يا أحمد !

ولكن لو تعلم كم أحبها وكم أشفق عليها  وكم أنا متأثر؟ أتمنى لو تفهمني ، فهل ستفعل ؟ هل ستسامح ؟ هل ستعود لبيتها ؟ كم هو موحش ومخيف هذا البيت في غيابها !

أسبوع مضى ... تعب الأب وتعبت البنات ، ولم يكن هناك من يعاونهم سوى الجيران .

قررت سماء ...

 وهاهي وجها لوجه مع زوجة أبيها ، والتي عرفتها سريعا ! ولما رأت سماء صورة لها ولأختيها في ركن بارز مهم في المنزل الصغير زال عجبها .

استقبلتها زوجة أبيها بحرارة وحنان قلقين !!

قالت سماء بعد أن شعرت بالأمان : ألا يمكنك أن تتركي أبانا ؟ إن أمي غادرت المنزل منذ أسبوع ، وأنا متأكدة أن أمي لن يطول بقاؤها عند صديقتها ، وأخشى ما نخشاه أن تسافر إلى جدي وجدتي  وتتركنا إلى الأبد !

لم تستطع سماء أن تقول أرجوك ، فقد خنق البكاء صوتها طويلا ..

قالت زوجة أبيها : سأتصرف حبيبتي .. مع وعد منها بعدم إخبار الأب بهذه الزيارة.

 

رجت زوجة الأب المضيفة حنان أن تبقى جالسة ، وقالت توجه حديثها لنور :

يا سيدة نور !

أجابت بحدة : ماذا تريدين أكثر مما أخذت ؟ لماذا تبعتني ؟

تابعت رحمة : لا أحد يعلم أنني جئتك .. هذا أولا .

وثانيا وباختصار ، فقد أمضيت طفولتي ومراهقتي في بيت تنفست فيه حقدا من زوجة أبي ، وظللتني سماء كرهها حتى مات أبي ، فانتقلت للعيش في بيت أخي مع زوجة أطعمتني مر غيرتها ، وسقتني حنظل إهانتها صبحا ومساء !

تعب أخي وتنكد عيشه سنوات طويلة ، وأصيب بجلطة أنجاه الله منها .. اشتد بعدها قلقه عليّ            - خاصة وأنني أصبحت فوق الثلاثين من العمر-  فعرض على .. أقصد.. فزوّجني !

بالله عليك ! لو جئتك شاكية إليك عارضة عليك مشكلتي ، بم كنت ستنصحين وأنت اختصاصية اجتماعية متميزة ؟

ولما لم تقل نور شيئا ، ولما ذهلت حنان وشعرت بالحرج ، تابعت رحمة :لا بأس ، سأطلب منه الطلاق ، ولكن يبدو أنني .. أنني حامل .

   فوجئ أحمد والبنات بعودة نور، وكان لقاء حارا تعانقوا فيه جميعا معا ، وخُيـّل لنور أن كل الأشياء في البيت تتعانق سعادة .... هذا الخيال نفسه قسى عليها في الأيام التالية  فأخذ يصور لها كيف أن زوجها يضحك مع غيرها، ويدلل غيرها ، ويحتضن غيرها ، وينام إلى جوار غيرها... فتنهض من سريرها جريا إلى أي شيء يطفئ لهيب غيرتها أو يبرئ أوجاع شقيقة رأسها ، ولم يكن يهوّن عليها سوى الأنس بالله.. وما أعظمه وأحلاه  من أنس!!

ثم أخذت تمرن نفسها على عدم التفكير فيما يثيرها ، ونجحت إلى حد كبير، وساعدها في ذلك المزيد من حنان زوجها ودلاله لها وللبنات ، والحق أنه لم يشعرها يوما أن له زوجة أخرى .

   كان يوما شديد البرودة من أيام شهر كانون الثاني ، دخل أحمد وقد ضم إلى صدره طفلا في لفة اشتد صراخه ، وضعه بين يدي نور ، وناولها هاتفا نقالا ، وطلب إليها أن تقرأ :

أختي نور ، ها أنذا أودع وأستودع

أودع الحياة .. وأستودع ابني حمزة

لن أجد أمينة عليه سواك

أهديك إياه .. وأسأل الله أن يبرك ويبر أباه وأخواته .

 رحمة

تضع نور القلم تمرن أصابعها ...

إيه ! سامحَني الله وغفَر لي ، ورحمك يا رحمة .

أسمع صوت زغاريد ، لابد وأنه حمزة !

  خرجت من حجرتها لترى حمزة الذي كان يقف وسط الصالة ،  فيقبل رأسها فرحا عندما  يراها ،  ويناولها :

بسم الله ..

هذه نور ، وهذه رحمة ، أما الأصغر بعشر دقائق فهو : محمد .

عقدت المفاجأة لسانها ! ثم حُـلّ قليلا لتقول : أيها الماكر الوفي ! واستطعت أن تخفي ؟