السؤال المنفي
حارثة مجاهد ديرانية
مرحباً بكم، أنا مدرس اللغة العربية في مدرسة "ألف باء" الابتدائية الأهلية، وقد أحببت أن أقص عليكم أحداث حصتي الأخيرة. دخلت حجرة الدرس مسلماً على الطلاب، وبعد رد السلام سألت الجميع: "من حضَّر الدرس منكم يا أولاد؟"، ولما لم يرد أحد فقد قفزت إلى السؤال الثاني (وكنت مخططاً لذلك): "ألم يحضر أحد منكم الدرس؟"، فرد علي الأولاد: "لا، لم نحضره". وعندها رفعت يدي ماداً سبابتي إلى أعلى في حركة انفعالية مؤثرة وصحت قائلاً: "آها! هذا هو موضوع الدرس لهذا اليوم؛ فإثباتُ النفيِ نفيٌ ونفيُ الإثباتِ نفيٌ وإثباتُ الإثبات إثبات!"، واستدرت في الحال بعدئذٍ لأدون نقاط الدرس الأساسية على اللوح مستعداً لإلقاء محاضرتي الجديدة عن "الرد على السؤال المنفي". في البداية سيطر على الحجرة سكون غريب لم أعهد مثله من قبل، ثم بدأت تتصاعد من بعد ذلك أصوات الهمس والهمهمات، ولم أكد أنهي كتابة تلك النقاط وأستدير حتى رأيت كل تلميذ ينظر إلى جاره ويهز كتفيه ويمد شفته السفلى بطريقة تعبر عن الحيرة والارتباك. وبعد نظرة تفحص بائسة سألت تلامذتي: "ما بكم؟ ألم تفهموا ما قلت قبل دقيقة؟"، فردوا علي: "لا، لم نفهم"، قلت: "قولوا "نعم، لم نفهم""، وعندها احتاروا أكثر من التي سبقتها وبدأ بعضهم يسأل بعضاً أن كيف يقولون "نعم" ثم يتبعونها بـ"لم نفهم"؟ لا يجتمعان! وأنا لا أعرف لم اخترت التدريس مهنة وأنا أضْيَق أهل الأرض بالأطفال، فلا أكاد أطيق مجالستهم والصبر على ثقل فهمهم وبداءة عقولهم، بغض النظر عن شقاوتهم إذا قاموا وجعلوا ينطون هنا وهناك كالسعادين! لكنني سيطرت على أعصابي وأخذت نفساً عميقاً لأبدأ بشرح تلك المعضلة الأفلاطونية الصعبة وقلت: "حسناً، حصة اليوم عن السؤال المنفي، فأقول مثلاً "ألن تذهب إلى المدرسة اليوم؟"، فهنا أنا سألتك سؤالاً منفيّاً لا مثبتاً، فإن لم تكن تريد الذهاب فعلاً أثبتَّ ما سألتُك بقولك "نعم"، لأنني نفيتُ ذهابك وأنت تريد لهذا النفي أن يظل نفياً فتُثبته وإلا فإنك إذا نفيته صار نفيَ نفيٍ وألغى هذا ذاك وعدنا إلى الإثبات من جديد. شيء في غاية البساطة والسهولة! أظن أن لا أحد منكم يحتاج إلى سؤال حتى هذه النقطة؟"، وتردد الطلبة لحظة ثم قالوا بأصوات متقطعة متفرقة (وكأنهم رأوا من فرط اندفاعي أنني لن أحتمل إشارة لإعادة كلمة واحدة مما قلت، وقد كانوا على حق!): "لا". وعندها انفجرت صائحاً قبل أن يدركوا السبب: "نعم! هذا واضح، فأنتم لم تفهموا شيئاً على الإطلاق؛ فهنا لن تجيب "بلا" بأي حال. محمد! قم وأجب عن سؤالي هذا: "ألم تفطر هذا الصباح؟"، وأنت أفطرت، فماذا تقول؟"، فقام الطالب الطويل من مكانه وقال: "لا، بل أفطرت!". وعندها فقدت أعصابي تماماً وصحت ثائراً: "بلى"، قل "بلى"!
- ولكنك قلت إن نفيَ النفيِ..؟
- لا يمكن أن يجاب عن السؤال المنفي "بِلا" مطلقاً أفهمتم!..
وبكل براءة وطيبة قاطعني تلامذتي النوابغ بالجواب الشافي: "بلى!"، وكان ذلك بنزيناً على نار كافياً تماماً لينهي الحصة، وصحت وأنا ما أزال في خضم ثورتي العارمة: "كفى! لقد نلت ما يكفي اليوم منكم وانتهى الدرس.."، وتابعت منفعلاً وأنا أمسك بمقبض الباب بيد وحاملاً حقيبتي بالأخرى متأهباً للخروج: "ولتعلموا أنني لن أعيد منه حرفاً واحداً حينما نبدأ بدرسنا الجديد في الحصة القادمة!"، وصاح الطلبة مذعورين: "ماذا؟ ألن تعيده لنا غداً!"، فتوقفت وأنا أفتح الباب لأقول: "لا لن أعيـ.. أقصد نعم لن أعيده!!". وعمَّ الاضطراب والفوضى عندئذٍ أرجاء الفصل، وعلا من آخر الحجرة صوت طالب سمين يأكل كيس بطاطا مقلية وقد استلقى على كرسيه مرخياً مثل وسادة بالية يقول: "أستاذ، ما هو السؤال المنفي!". ولكنني لم أجبه؛ لأن ما قاله جعلني أعجل بهروبي قبل أن ينفجر رأسي، فصفقت الباب ورائي وانصرفت!*
* كان ذلك الدرس يدور حول الرد على سؤال النفي مثل: "ألم تذهب إلى عملك أمس؟"، وقد اعتدنا منذ أجيال أن نرد على هذا السؤال بشكل خاطئ بأن نرد: "لا لم أذهب"، مع أن الجواب "بلا" هو نفي نفي يعيدنا إلى الإثبات (ولا يمكن أن يجاب عن السؤال المنفي "بلا" على الإطلاق)، والصحيح أن تقول: "نعم لم أذهب"، فإذا كنت ذهبت قلت: "بلى ذهبت".