ليلة عيد
عبير الطنطاوي
دخل البيت عابساً باسراً كارهاً الدنيا بما فيها ، عيناه السوداوان كأنهما نيران بركان من الحنق الذي يعاني منه ، تترقرق دمعتان فيروزيتان من ميناءي عينيه الصغيرتين .. نظر إلى جدته الجالسة أمام النافذة تخيط ملابسه ، وسألها :
ـ أبهذا الشيء يا جدتي سأقضي العيد ؟!
كان حلمه أن تكون الإجابة بالنفي ، ولكن سكوت جدته ونظراتها الحسيرة تقول له :
ـ نعم يا فهد .. بهذه الملابس ستقضي العيد ، وستمشي بها أمام زملائك الذين لبسوا الجديد ، وعرفوا طعم الحلويات .
انهارت الدنيا في جوف الظلام الدامس المخيم على بيتهم الصغير ، واجتازت الدموع سور خديه ، وهطلت ..
جلس في غرفته يبكي .. لماذا هذا العالم منذ ولادته إلى اليوم لا يعطيه إلا الحزن ؟ لماذا لم يعطه والده ؟ منذ أن ولد وهو لا يعرف لوالده قراراً ، هو يذكر حينما كان يدخل عليهم هذا الوالد الحبيب ، ويسترق لحظات يعانق فيها جدار البيت ، ويقبّل تراب فلسطين ، ويذكر يوم دخل عليهم محملاً بدمائه التي غيرت لون وجهه الشاحب ، وأزالت عن جبهته الحرارة ، وحوّلتها إلى صقيع ، يذكر يوم دخل عليهم بهذا المشهد ، وكيف نام في فراشه ، وعندما أفاقت الوالدة ، بدأ صراخها وعويلها ، لقد فقدته ، يومها كان عمره أربع سنوات .. دخل إلى حجرة أبيه ، وتحسس جبهته فوجدها باردة ، اعتقد أن والده يعاني من البرد ، فغطّاه ، ثم ضمه إلى صدره ، ولكنه وجد أمه وجدته تبكيان . سأل واستفسر ، ولم يلق الجواب ، واليوم ، بعد أن بلغ الثامنة من عمره ، وجد الجواب في مقاعد الدراسة .. إنه الموت ..
استرجع هذه الذكريات ، ولم يطق الجلوس في البيت ، فخرج ودموعه تداوي جراحه . مشى في الطرقات ، وقف على مفارق الشوارع ، إلى أن أعلنت له الشمس أنها سوف تغيب ، وعليه أن يعود إلى البيت قبل ذهابها ، وحلول الظلام .
عاد إلى البيت وحاجباه المقطبان يعززان غضباً جامحاً .. قرع الجرس وكان رنينه كالدقّ في المقابر .. فتحت أمه الباب ، وعلى وجهها ابتسامة عريضة تبشره :
ـ ولدي فهد . اليوم يوم الوقفة ، وغداً العيد ، وهذه الملابس الجديدة لك ستقابل بها رفاقك غداً إن شاء الله . وليس هناك من هو أفضل منك ..
صرخ فهد والفرح يغمر عينيه البريئتين :
ـ صحيح يا أمي ؟
تناول السروال والقميص الجديدين ، وأخذ يتأملهما ، ويدقّق في أوصافهما ، ونام على فراش الأحلام ، ضاماً إلى صدره ملابس العيد ، تحمله أحلامه إلى عالم من الخيال السعيد .
في اليوم التالي لبس فهد الملابس الجديدة ، وتأنق وخرج من البيت مزهواً ، فقد صار كسائر رفاقه يرتدي الجديد من اللباس في يوم العيد .
توسط فهد المجلس الصغير ، وراح ينظر إلى رفاقه الذين كانوا ينظرون إليه ، ويتهامسون ، ويضحكون . صرخ في وجوههم :
ـ لمَ تتهامسون ؟
أجاب أحدهم :
ـ انتظر حتى يحضر سعيد .
وقال آخر :
ـ عندما يرى سعيد ملابسه عليك ، فسوف تقوم قيامتك .
ما قيمة الصعق الكهربائي إذا قيس بهذه الكلمات ؟.... فسعيد ذلك الولد (المسخرة) هو صاحب هذه الملابس ؟
تضارب مع صديقه ، صرخ ، ونزلت دموعه ، وانطلق يركض نحو داره ، وفي أثناء الطريق تحولت الدنيا إلى أحلام صغيرة : أن تكون هذه الملابس ملابسه ، ولا دخل لسعيد فيها .. دخل إلى أمه ينظر ، يتساءل ، ويلمس ويؤشر ويوضح ، وأخيراً جاءه الجواب :
ـ هذا صحيح يا بني .. ولكن الأصح منه أنك ابن شهيد ، وأنك أكبر من هذه المظاهر الكاذبة ، فالإنسان يا فهد ليس بمظهره وملابسه ، بل هو بعقله ورجولته وقلبه وإيمانه بالله العظيم ، أنت رجل يا ولدي ، وأنت ابن شهيد يا فهد .. أبوك استشهد في فلسطين .. استشهد في (أم الفحم) يا ولدي ..
شعر فهد بعزة النفس والفخر بوالده فقرر أن يلبس ثوبه القديم الذي خاطته له جدته ويقف أمام الجميع بعزة وكرامة .. فهو ابن الشهيد .....

