وميضٌ عند الهاوية
نسب أديب حسين ـ فلسطين
نظرت اليه، فألفيته على حاله.. ما زال يرسم، أقتربتُ فوجدت أن اسلوبه في الرسم قد تحسن. نظر الي ابتسم بأملٍ هامسًا " ستعود..".
عندما حضر الي في ذلك اليوم المشؤوم من حياته كان في حاله يرثى لها، انفجر بالبكاء وراح يصرخ "أخذوها.. أخذوها"، رحت احاول التهدئة من روعه، وأن أفهم ماذا حصل. لكن بعد أن هدأ أخفى وجهه براحيته وصمت، وبعد أن طال صمته لست أدري كيف خطر لي ذلك الخاطر فقلتُ له: "أرسمها..".
بعد أيام كانت وسائل الاعلام كفيلة بأن أفهم ما حصل، ولكن غابت عن ذهني تلك الكلمة التي قلتها له محض صدفة، الى أن سمعت بعد مدة زميلاتي من المعلمات في المدرسة يتحدثن عنه قائلات أنه صار يستغل أوقات الفراغ بين الحصص للرسم، واثناء الحصص يبقى شارد الذهن.. ذهبت لأراه اذ لم أعلم عن تغير أحواله بعد انقطاعه عن الحضور الي لتلقي الدروس الخصوصية.
كان جالسًا الى مقعده منكبًا على رسمته، وعندما اقترتب، رفع نظره نحوي وسألني: " أهي جميلة؟"، أومأتَ برأسي علامة الايجاب، وبعد لحظات عاد يؤكد أنها لا بدّ وتعود. رثيتُ لحاله ولم أستطع أن أطلعه على هواجسي وخشيتي من أنها لن تعود. هو استمر بالرسم وبقي حتى نهاية العام الدراسي يأتي الي ليطلعني على لوحاته..
كنت أدرك مدى حبه لها فقد كانت تلك الارض الواقعة قريبًا من قرية سلوان متنفسًا له ولعائلته، قضى طفولته بين أشجارها وغرس عددًا من أشتال اللوز والليمون في رقعة خاصة به منها، كان يحدثني عنها ببهجة ٍ يتابع الاشجار ويقارن طول قامته بطولها، وفجأة ضاع كل شيء حينما فشلت عائلته بالتصدي للمستوطنين الذين حضروا بعتادهم وسلاحهم واستولوا عليها.
أخبرني أنه يتسلل أحيانًا اليها في الليل لينظر الى أشجاره ويطمئن عليها، لكنهم رأوه ذات مرة وأطلقوا النيران عليه ونجا بأعجوبة.
انتقل من المدرسة مع انهائه المرحلة الابتدائية في ذلك العام، وانقطعت اخباره عني.
بعد بضع سنوات مررت الى حوش الفن الفلسطيني في شارع الزهراء بالقدس كعادتي لأطلع على معرض رسم أفتتح هناك، وعندما دخلت شاهدت رسوماتٍ شعرت أنها مألوفة لدي ولفتت انتباهي لوحة كبيرة تتوسط احدى غرف المعرض، وما ان اقتربت منها حتى أتاني صوته الذي تغير :" ما رأيكِ أهي جميلة؟" ـ "إنها رائعة.."
ابتسم، بقيت عيناه الحالمتين تتجهان الى لوحته ليقول بذات الثقة:" ستعود.."