الحجاب ومجتمع الفسوق

الحجاب ومجتمع الفسوق

رنا سليمان

[email protected]

رأيتها تبكي بحرقة , كانت جالسة أمام أحد البيوت , نظرت إليها كثيراً  أخذتني الشفقة عليها ذهبت إليها لكي أسألها :- ألم يفتح لك أحد ؟؟!! , فما كان منها إلا أن ازدادت بكاءً.

قلت لها : أأطرق الباب لك يا خالة ؟

نظرت إليّ وإذا هي امرأة بالثلاثينيات من العمر , ملامح وجهها تدل على أنها عانت كثيراً, مما جعل الفضول يستحوذ عليّ

أعطيتها منديلاً وأنا ألح عليها بالسؤال : أهم أولادك ؟

أخذت المنديل , ومسحت دموعها , ثم قالت : أنا غريبة , فقد هاجر أصحاب البيت وتركوني , ولكني لست عاتبة عليهم , لأنني هجرتهم قبل أن يهجروني , وعادت للبكاء

أمسكت بيدها ، طلبت منها الوقوف , والمجيء معي إلى البيت

وبعد أن قامت نظرت إليّ تتأمل ملابسي , مما جعلني أشعر للحظات بالخوف , فقلت لها : هل من خطب يا خالة ؟!!!

قالت : اشتقت له

قلت : من ؟!!

قالت :  لكنني أنا هجرته

قلت : ما قصدك

قالت: أي قسوة قلبِ كانت لي حتى هجرته ؟؟!!  أي ظلام كنت أعيش فيه حتى نسيته ؟

قلت والحيرة تملكت قلبي : هيا بنا يا خالة , سآخذك معي إلى المنزل وهناك بإذن الله سترتاحين وتحدثيني قصتك ....

أخذتها معي للمنزل , طرقت الباب , فتح لي أحد إخوتي الصغار , وسمعت صوت أمي تنادي من الداخل : من عند الباب ؟

فأجبتها : أنا ومعي ضيفة

جاءت أمي على عجل , نظرت إليها وملامح الاستغراب بادية على وجهها , ثم قالت : تفضلي يا أختاه  

دخلت إلى الغرفة وجلست على الأرض

فقلت لها : لا يا خالة فلتجلسي على الكرسي

قالت : مللت منهم

نهضت بسرعة إلى المطبخ لأعد لها بعض الطعام فقد كان يبدو عليها الجوع والإجهاد , وبعد تناول لقيمات صغيرة نظرت إلى أمي وشكرتها  , ثم عادت الدموع تملأ عينيها ....

طلبت منها أن تتكلم لترتاح , ولأرضي فضولاً كاد يقتلني , بدأت حديثها  والكل ينظر إليها بتشوق حتى إخوتي الذين ولأول مرة يفضلون الجلوس والاستماع على اللعب

قالت : كنت أنانية , نرجسية  , قاسية  , لم أقم اعتباراً لا لأمي و لا لأبي فكيف أفكر فيه هو ؟

كنت وحيدة عند أهلي , قدموا لي الكثير , كنت بمجرد التفوه ودون الإلحاح يقدمون لي ما أريد .......... كان حجابي عبارة عن شال وضعته على رأسي دون الشعور بأهميته

درست ونجحت , وتفوقت , كنت أشعر بأن الدنيا لم تعد تسعني ولأنني أتوق لاكتشاف المزيد, وبعد إنهاء دراستي الثانوية وبتفوق دخلت الجامعة وعندها ألزمني والدي بلبس الحجاب الشرعي , لكنني اعترضت على ارتداءه ثم ارتديته بعد إلحاح والدي الشديد ، ولم أدر أن ارتداءه سيجلب لي فارس الأحلام  , كان دكتوراً في جامعتي , كان معجباً بحجابي وتفوقي , تخرجت وتزوجنا وبعد سنة من زواجنا , مُنحت البعثة إلى الخارج لإتمام دراستي , كان من أشد المعارضين لسفري , حاول كثيراً معي .. كلم والدي , ولكني كنت أطمح إلى البعيد كعادتي .

كان يردد دائماً: أنا أخاف عليك  , أتعلمين إلى أين أنت ذاهبة ... إلى مجتمع كثُر فيه الانحلال والفسوق

فكنت أرد عليه دون أن يكون لكلامه قيمة عندي : ألست واثقاً مني ؟ أنا لن أتخلى عن قيمي ومبادئي مهما حصل وسنبقى على اتصال .

وجاء اليوم الموعود , كانت السعادة تغمر قلبي , تجهزت كثيراً لهذا اليوم  وها أنا أمشى على دروبه الأولى , كأنني نجمة من نجوم هذا الزمان , كان الغرور يتملكني قبل نجاحي

وعندما وصلت ذهلت بكل ما رأيت , وكان هذا آخر ما أتمناه , اتصلت بزوجي كي أطمأنه عليّ , وكان من الواضح من نبرة صوته أنه مازال غير راضٍ عن سفري  فلم آبه له واستهترت به

وفي يوم دراستي الأول كنت كعادتي متفوقة بكل شيء إلا أن شيئاً واحداً كان ينغص علي ... إنه الحجاب , لأنني كنت أرغب ببناء صداقات إلا أنهم كانوا يظهرون لي كرهاً كبيراً , كنت بين الفترة والأخرى أتصل بزوجي وبين كل فترة وأخرى تزداد الأيام ويزداد قلبي قساوة , إلى أن قاطعته نهائياً وصرت أسأل عنه عن طريق والدي اللذان لا يحظيان بالاتصال مني إلا بفترات متباعدة , وبعد فترة علمت من أهلي أنه طلقني , فشعرت بأنني تحررت من قيود كنت أكرهها وغمرت السعادة قلبي , وبعد فترة جاءني نبأ وفاة والدي , ولحقته والدتي , حزنت لفترة وجيزة ثم انغمست في ذلك المجتمع فلم أعد أُسئل من أحد , لدرجة أنني أحببت عاداتهم وبدأت أطبقها , درست وقدمت البحوث , ولكن عند أول بحث لي وقف ضدي الدكتور إلى أن جعلني أخلع الحجاب , شعرت بسعادة كبيرة وكأن خلعي للحجاب حررني من باقي قيودي .

كونت الصداقات وسهرت الليالي إلى أن أصبح الفشل يرافقني تركت ما جئت من أجله وحاولت إيجاد عمل , طالبت أعمامي بإرسال ثمن بيت والدي لأنفقه على نفسي , بعت كل ما لدي أدمنت على الخمور , تجاهلت عن كل ما حرمه الله ، إلى أن أنفقت كل ما لدي ولم أعد أملك حتى ثمن تذكرة العودة , مشيت في الشوارع – لا بل نمت فيها – إلى أن سمعت مرة شاباً يمشي مع اثنين من أصدقائه يتكلم اللغة العربية , لاحقته  كثيراً .... تهرب مني , عرفت أين يسكن حتى عندما يجلس مع رفاقه في إحدى الحدائق كنت أجلس خلفهم وأستمع لحديثهم , سمعتهم مرات عديدة يتكلمون عن الصلاة والصيام , شعرت بالحزن يعتصر قلبي . شعرت بشوق جارف للصلاة والحجاب , خرجت إليهم أترجاهم أن يعيدوني إلى بلادي , عرفوا أني مسلمة رغم أنني نسيت كل شيء عن الإسلام وعندما أعادوني لبلادي , رفض أعمامي استقبالي , فكرت كثيراً إلى أين أذهب , بيت والدي قد بعته وأنفقت ثمنه على الفسوق والانحلال , مشيت في الشوارع إلى أن أخذتني قدماي إلى بيت زوجي السابق ....... ترددت كثيراً في أن أطرق الباب وفي النهاية طرقته ففتح لي شاب في مقتبل العمر جميل الهيئة كان النور الذي في وجهه لا يخفى للناظرين ومن ملامح وجهه شعرت أنه يشبه زوجي فقلت له : أأنت ولده ؟!

قال : ولد من ؟

قلت : فلان

قال : نعم

قلت : أين هو ؟

قال : والدي توفي منذ سنة , أي خدمة ؟

لم يدر أنه أخرج سيفاً وأغمده بقلبي

قلت : لا ..... شكراً ....

فأغلق الباب , وجلست أبكي ندماً على ما مضى إلى أن أتيتني أنت وكنت لي كالأمل الجديد الذي وضعه الله سبحانه وتعالى في طريقي ............................

وبعد أن أنهت قصتها شعرت بغصة كبيرة وسألتها بخنقه أتريدين الوضوء والصلاة

قالت وكأنها وجدت شيئاً غاب عنها لسنوات : نعم

فقامت للوضوء وبعد أن انتهت من صلاتها , طلبت المصحف , وبينما أنا أجلبه لها كانت قد أغمضت عينيها لترحل إلى خالقها , بكيت أنا وأسرتي , ليس  فقط عليها بل على كثيرٍ من شبابنا وشاباتنا الذين يمرون بنفس الظروف

قال الله تعالى : (( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ..... ) الآية .