عناوين الصحف متشابهة اليوم

عناوين الصحف متشابهة اليوم

عزيز باكوش

[email protected]

 يلامس حافة الطوار الأحمر والأبيض وهو يتمتم بصلاة   ، يرج بعصاه  البيضاء المفككة  برفق رغام الأرض الأصفر المتشقق ،ورأسه في السماء، يتحسس ذاته المشطورة على نحو قلق  ، يبحث عن أشياء تعيق خطواته المترددة الواثقة فلا يجدها  ، تنزلق قدمه فجأة ، تطأ فراغا ، يجنح به  جهة مجهولة ، رصيف عبور الدراجات وحده يسنده، ينحرف يمينا ، ثم الى زاوية 180 درجة ، يقطع الممر المحاذي لمبنى مولد الكهرباء المنطقة في حذر ، ينعطف شمالا ، ثم يستعجل الارتماء  في ثقة الى الرصيف الآخر ،  كل مرة تنزلق خطاه يعيد فيها نظارته السوداء الى موقع متقدم من أرنبة انفه ، حين يدفع بجسده الضامر حد المنعطف الأول من شارع المدينة الرئيس ، تفجعه أبواق السيارات وتفرغ أحشاءه بكسل ، فلا يكترث ،  فقط يتحسس بقلبه ما يمور به الشارع ، وببديهته  يقود روحه الهامدة المسكونة  بعناد وسط عربات مخبولة ،  وأجساد مسطولة تبحث لنفسها عن موطئ  قدم  وسط بحر من صخب بلا ضفاف.

   اللحظة ، لا شي ء يربطه بالأرض سوى قدميه. قبل أسابيع قرر مجلس المدينة تهيئ الممرات وتوسيعها من غير تثبيت علامات  تنظم السير والجولان للمبصرين،  بله،  غير المبصرين .

    وتبعا لذلك ، ظلت الخطوات العشر التي تفصله عن هدفه المنشود محفوفة بالمخاطر ، فعمليات الحفر والردم متواصلة ، في ارتجال مقصود ، مما حول الممشى المحسوب بدقة  الى معسكر تدريب بالذخيرة الحية. يتوقف لحظة ، يأخذ نفسا  ، الشارع حمام تغتسل بطقسه الكائنات المزحومة افتراضيا. تصدمه عربة بائع خضراوات ، يلتفت الى مصدر الصدمة متضايقا ،  يسمع كلاما  مألوفا،  الله يلعن الأعمى الذي أنجبه......  تربيته وأصوله،  حتما،  لا يكترث .

 ارتفعت حرارة  جسمه ، وغلى الدم الإنساني في عروقه، وتوجه ناحية الصوت ، منقبض الأسارير.  وبسخاء ،  منح  مهلة  للصمت كي ينوب عنه في  ما يعتمل داخله. 

    المسافة بينه وبين هدفه  بدأت تتحدد، منذ 14 سنة مرت ، وهو يرفع عينيه كي لا يرى شيئا من ألوانه وخطوطه وصوره الجميلة الفاتنة ،  فقط  يأتي كي يسمع رجولته تتمرغ في تراب، وإنسانيته في وحل  وطين . الأصوات والضوضاء والصدمات  تتكالب على حسه المتهالك  المرهف ، تتواطأ ، تتآمر ، يقترب شيئا فشيئا من هدفه ، الذي أدمنه كل صباح ، هدف بات أمره اليومي ، وشغله الذي لا يعترف بالأيام دون حدوثه ، وبعينين مفتوحتين على نفق عميق يحدج ، ويكبر توقه ، تجتمع في أحاسيسه كل الكائنات، فجأة ، تحيق به لحظة للهرب ، الى أي مكان ،  يركض حيث هو ، ينتفض، يتحسس أشياءه ، وأشلاءه ، صدمة ثم صرخة ، وسيارة إسعاف . لكن نغما رتيبا ينبعث من ساعته التي يتحسس ميناءها الناتئ كصخر محيط هامشي. آه الوقت يزحف ،  والهدف بات على مرمى حجر.

  الآن  يقف قبالة الهدف  ، يحدق فيه بعينين بلا أهداب وبلا صور ، كما دأب مذ وقعت الواقعة ، يحاول أن يعثر للأشياء على لون فلا يستطيع ، كل الأشياء والأصوات والأحداث والوقائع لها طعم واحد ، صخب وصخب.

   كان نحيفا كريشة في مهب ريح ، ونظيفا كحمامة وديعة ، صوته  اختنق بفعل الصراخ الدائر من حوله ، "شوف قدامك"..   ابتعد وإلا كسرت عظامك "  أنت أيها الأبله".. ،" أيها الأعمى.".. لا يكترث، يفولذ أذنيه المتدليتان نحو المدى ،   تصعد  ثورة من الأعماق  داخله تلعن نظام العالم  بفوضاه . فيكتمها . عاد يمضغ حسراته من غير أن يذكر تفاصيل الماضي ،  حين كان يقصد الهدف ولا يستغرقه سوى   خمس دقائق ، ثم يشفي غليله  ، ويعود بسرعة البرق ، الآن  يتذكر  كان طفلا  وكان مشاغبا ، لكن سائقا متهورا  كان الأعمى .

   أحب الجريدة  التي علمته كيف يرضى بالقهر ويسميه سترا  وواقعية. وتمسك بقراءة صفحاتها من الافتتاحية حتى الأخيرة . وحين ينتهي من قراءتها يسلمها الى رفيقه في النضال.

   تأمل المشهد من جديد أمامه ، مآت العناوين الملونة ، عشرات الصور ذات الجودة العالية ... مسح عينيه من دموع لم تسقط أبدا ، وقال لصاحبه: جئت متأخرا ..أليس كذلك ؟ لا باس يا أستاذ ..رد صاحب الكشك.

ثم ترجل عتبة الكشك،  وبعد أن اقتعد كرسيا من اللدائن . شرع  الكشكي يقرا عناوين صحف الصباح المحلية والعربية ،  الواحدة تلو الأخرى ،   فيما جفناه  مرتبكتان  مفتوحتان على ظلام اصطناعي لا ينتهي .

 قبل أن يغادر الهدف ، كانت ذاكرته لا تتسع ، وقد رشفت من بئر الكلام  كمية كبيرة ،  انتابته  شكوك  وأحاطت به  هواجس ، وهو الذي لا يرى  ويعرف ، ونادى على  صديقه الكتبي  ليهمس في أذنه :  لا شيء جديد إذن  صديقي ، عناوين  الصحف  كلها  باتت متشابهة  .