من معاني الرجولة

من حكايات التراث الشعبي الفلسطيني

على لسان الآباء والأجداد

تحسين أبو عاصي

– غزة فلسطين –

[email protected]

عاش طفل يتيم برفقة عمه حتى بلغ من العمر ستة عشر عاما ، ثم طلب من عمه الزواج من ابنته التي كان يحبها ، فقال له عمه عندما تكبر وتصير رجلا و الرجولة في الصبر ، وعندما أصبح عمره عشرين عاما ، طلب من عمه الزواج مرة ثانية فقال له عمه أيضا : عندما تكبر وتصير رجلا و الرجولة في الصبر ، ثم عندما بلغ الثالثة والعشرين عاما  طلب منه للمرة الثالثة  وكان رد عمه عندما تكبر وتصير رجلا و الرجولة في الصبر .

ترك اليتيم بيت عمه ، وخرج يائسا هائما على وجهه في الصحراء ، ورزقه الله بعمل ، فجمع في فترة سنتين ، أكثر مما جمع في بيت عمه بأضعاف مضاعفة ، رجع اليتيم إلى عمه فرحا ، معتقدا أن عمه سيزوجه ، وأنه صار رجلا ، أعطى كل ما جمع من مال إلى عمه ، وطلب منه ابنته مرة ثالثة ، فقال له : عندما تكبر وتصير رجلا و الرجولة في الصبر .

خرج اليتيم من بيت عمه مرة ثانية ، حزينا حائرا هائما على وجهه ، يكابد حرارة الصحراء وآلام الجوع والعطش ، فعثر في طريقه على خُصٍ ( بيت من الشعر لأعرابي في الصحراء ) وقد بلغ منه العطش مبلغه ، اقترب اليتيم من الخُص ، فإذا بقربة ماء معلقة في الظل يداعبها الهواء ، نادي اليتيم على صاحب الخُص ، لعله يُبل عروقه ولو بقليل من الماء ، فخرجت إليه بنت صاحب الخُص ، استأذن اليتيم من البنت أن يشرب من الماء فأذنت له ، وعندما أمسك بقربة الماء ، ووضعها بين شفتيه، وقد شرب قدر فنجان قهوة من الماء البارد ، وفجأة جاءت البنت واختطفت القربة من بين شفتيه ، عجب اليتيم واحتار في أمرها أشد العجب والحيرة ، كيف تخطف من فمه قربة الماء وهو يعاني من عطش الصحراء معاناة شديدة !! ؟

طلبت البنت من اليتيم أن يدخل ديوان والدها الغائب عن البيت ، وذبحت البنت له شاة  وأحسنت ضيافته ، وأكرمت نزله ، كأفضل ما يكرم العربي ضيفه ، ثم جاءت له بعد ذلك بقربة الماء ، وطلبت منه أن يشرب الآن كما يريد ، أكل اليتيم وشرب وحمد الله وشكر فضله .

سأل اليتيم البنت : لماذا رفعت القربة عن فمي وأنا شديد العطش !!؟ 

أجابت البنت : الرجولة في الصبر .

قال اليتيم : أنني أبحث عن هذه الكلمة منذ عشر سنين ولم أيأس ، لقد بعثت ِ الحياة بداخلي من جديد ، فما تفسيرها ؟ .

قالت له : لو شربت من ماء القربة حتى ارتويت لما أكلت من الطعام الذي

فالرجولة في الصبرر .

سألها اليتيم : أين أبوك ؟ قالت له : إن أبي يسقي الماء بالماء !!

 ثم سألها : أين أمك ؟ قالت أمي تخرج كل يوم لتغضب الله !!

ثم سألها :أين أخوك ؟ قالت أخي يعارك الهواء !!

قال لها : إنني أسمع منك  كلاما عجبا ، فهل من تفسير لما تقولين ؟

قالت : نعم  .

أما أبي الذي يسقي الماء بالماء ، فهو يمتلك مزرعة زرعها بنبات البطيخ ، والبطيخ ماء يرويه أبي بالماء.

وأما أمي التي تغضب ربها ، فتذهب كل يوم إلى المقبرة ، تبكي على ولد لها ، أخذ الله وداعته ، ثم تعود لاطمة خديها ، ناشرة شعرها ، ممزقة ثيابها .

وأما أخي الذي يعارك الهواء ، فهو يخرج إلى الغابات كل يوم يصيد الغزلان والأرانب وما شاء الله له من رزق الصيد ، وإنني هنا كما تراني وحيدة صابرة في البيت ، وعلى الرغم من أنني أنثى ، فإنني أصبر صبر الرجال ، فالرجولة في الصبر.

استأذنها اليتيم بالانصراف ثم انصرف ، وعاد إلى عمه يطلب ابنته من جديد ، وعندما قابل العم ابن أخيه اليتيم قال له : أين المال ؟

قال اليتيم : لا يوجد معي مالا .

قال العم : فأين الرجولة إذن ؟

قال اليتيم : الرجولة في الصبر .

قال العم : الآن أزوجك ابنتي فالمال لا يخلق رجالا بل إن الصبر هو الذي يخلق الرجال ولك مني فوق ابنتي مزرعة كبيرة وبيتا وقطيعا من الحلال .