اعتقال سياسي

ثامر سباعنه - فلسطين

[email protected]

يدخل إلى غرفة الدكتور النفساني ويلقي بجسده المتثاقل على سرير المرضى، يستغرب الدكتور ذلك، لكنه يمسك بدفتر الملاحظات ويقترب من المريض.

الدكتور: ما اسمك ؟

المريض: اسمي..... اسمي ..... أنا رقم ؟؟؟ مرة أكون واحد ومرة أخرى اثنان أو ثلاثة أوعشره ..... اسمي هو رقم الزنزانة التي اسكنها . فهناك لا ينادوننا بأسمائنا إنما بأرقام زنازيننا حتى لا يعلم أيٌ منا من يجاوره في الزنزانة.

الدكتور: عن أي زنازين تتكلم.... سجون الاحتلال؟؟

المريض ( يضحك بألم ): لا لا إنما سجون الوطن.

الدكتور : فهمت فهمت ... هل عُذبت !

المريض : وظلم ذوي القربى اشد ....لقد شُبحت وعُلقت وضُربت... أياما طويلة مُنعت فيها من النوم ... وأياما وليال قضيتها واقفا على قدماي حتى بتُّ لا اعرف ليلي من نهاري . وفي ذروة هذا الألم يتحول طعم الألم إلى طعم آخر ، وقد يكون هذا الطعم معاكسا لطعم الألم...

الدكتور : عن ماذا سألوك ؟

المريض : عن الوطن  ... عن الحب وهما أمران ممنوع على الأسير ان يكتب عنهم

ممنوع عليه ان يتحدث عنهم

ممنوع ان يحلم بهم....

الدكتور : هل كنت تنام ؟

المريض : لم أكن أغلق عيني لأني اعرف أن السجّان ينتظر نومي ليوقظني ليبدأ التحقيق من جديد.

الدكتور : وكيف كنت تقضي ايامك وحيدا في زنزانتك ؟؟

المريض : كنت أدور حول العالم وأنا في زنزانتي الصغيرة التي تبلغ مساحتها مترين في متر ، أحيانا كنت حاكما عربيا يحكم بين الناس بالعدل ويوزع ثروات الوطن وخيراته على المواطنين بالتساوي ... وأحيانا كنت رئيسا للوزراء لا اقبل الرشاوي والواسطة ..واحيانا فنان مشهور يمثل الأفلام التي تحاكي واقعنا الأليم ... وأحيانا أكون رساما ارسم أوجاع الوطن .  

الدكتور : من هو سجانك ؟؟؟

المريض ( تتجمع الدموع في عينيه ويجيب بصوت مخنوق ) : أخي ... أخي ابن ديني .... وأحيانا أخي ابن دمي ... أو صديق الصبا ومن كنا نلعب معا في حارتنا... أو زميلي في المقاومة... أو رفيقي في سجون الاحتلال ..

الدكتور: ولماذا اعتقلوك ؟

المريض : لأجل هذا ( ويخرج من جيبه راية خضراء ) ولأجل هذا ( ويخرج من جيبه راية صفراء ) ولأجل هذا ( يخرج راية سوداء ثم حمراء ثم بيضاء ويجمع الرايات معا ويقول )  ثم لأجل هذا اعتقلت ( فيُخرج علم وطنه)

الدكتور: كم قضيت في سجونهم؟

المريض : عن أي مرةً تتكلم !!! بداية كنت أُسجل أيامي على جدران زنزانتي...يوم يومان ثلاثة عشره ثلاث وعشرون ...إلى أن امتلأت جدران الزنزانة ... فتذكرت كلام والدي ( أنا بحسب والبين بيحسب .. أتاري حساب البين يغلب ) فتوقفت عن الحساب.

الدكتور: وكيف خرجت؟

المريض : مشنقتي كانت الطريق إلى حريتي

الدكتور باستغراب شديد : ماذا قلت ؟؟؟ وكيف ذلك؟

المريض : عندما مللت من الاعتقال والسجان قررت أن اصنع لنفسي مشنقة لتكون سبيلي إلى الخلاص من هذا العذاب .. وعندما جهزتها دخل علي السجان فوجدها فأسرع بي إلى المحقق الذي قرر : ( انه قد جن .. أفرجوا عنه فلم يعد ينفعنا .. فهو بحاجة لدكتور نفساني ).. وها أنا قد جئتك .

الدكتور ( يربت على كتف المريض ويقول بحنان ) : أنت لا تحتاج إلي ... إنما تحتاج إلى كفن.