الدعوة بالسؤال
جمال المعاند -إسبانيا
- في طريقه إلى المركز الإسلامي، حيث المسجد، مقهىً اختص برواده من العرب، فإذا ما وقع بصره عليهم تمتمَ بقوله " الحمد لله الذي عافاني مما ابتلى كثيراً من خلقه "، فالمقهى، برأيه، اختراع إبليسي أبسط مقاصده الغفلة عن ذكر الله سبحانه، ناهيك عن مكسرات شيطانية الصنع، حسب الذوق، من غيبة وكذب.. أما إن حانت منه التفاتة نحو طاولة يزجي الجالسون إليها الوقت بلعب الورق جزم أنها نوع من القمار.
قناعة يحدث بها مرافقيه إذا كان ثمة، وينعتها بمعاطن الشياطين، وآلى على نفسه أن لا يدخلها، ولو اضطره ظرف مثل السفر، لشرب كوب من الشاي أو القهوة فإنه يحمله بيده خارج نطاقها.
دفعته الحاجة يوماً لعامل سباكة، أخبره أحد معارفه أنه سيجد ضالته في المقهى آنف الذكر، وبالسعر المناسب، حاول جهده أن يلتقيه خارج نطاق المقهى لكن صاحبه قال: نحن نجهل من يستطيع عمل ذلك، ولابد من الاستقصاء.
تواعدا على الذهاب للمقهى بعد صلاة المغرب حيث يفرغ العمال من أشغالهم ، دخله وهو يتوجس خيفة من الغفلة، فقرر في نفسه التحول للذكر القلبي إرغاماً للشيطان، ومما شجعه قول النبي صلى الله عليه سلم : " ذاكر الله في الغافلين كالمقاتل بين الفارين"* ، وفيما كان صاحبه يبحث عن طاولة فارغة، كانت نظراته تتصفح الوجوه، أومأ له صاحبه إلى مكان فرغ للتَوّ، إنه مرتفع بعض الشيء ، رنا ببصره من علٍ إلى الحضور كانوا مئة أو يزيدون، وتتداخل في مسامعه لهجات عربية، أمعن النظر عله يعرف أحداً، فما أسعفته ذاكرته إلا عن قلة لا تتجاوز أصابع اليدين ممن رآهم في المسجد، ولما كان مركزهم الإسلامي هو الوحيد الذي يضم مسجداً في هذه البلدة خمن أن غالبية هؤلاء ممن أغواهم الشيطان وغلبتهم الشهوة .
وما إن أنهى صاحبه عملية العثور على العامل المطلوب واتفق معه، حتى استعجل الخروج من المقهى مع أنه ما زال في الوقت متسع لأذان العشاء ولم يفرغا من شرب القهوة، فقد قرر من قبل أن يلج مغادرة المكان فور انتهاء المهمة، فاستجابت جوارحه بشكل عفوي، فيما كان عقله قد بدأ يتعامل مع خاطر جديد لم يكن معه وقت دخوله.
عندما عاد إلى شقته بعد أداء صلاة العشاء ألح ذلكم الخاطر عليه حتى أنساه تناول وجبة العشاء، وسلمه لسلسلة من الأفكار الحيرى، وما استيقظ إلا ومنبه "المحمول" ينبه أنه وقت الفجر، فنهض وتؤضأ وخرج للمسجد.
بعد انتهاء الصلاة، وبدلاً من قراءة أوراد الصباح، قبض على لحيته غارقًا في التفكير، تلفت يميناً وشمالاً فلم ترَ عينه إلا ثلة لا يتمون صفاً واحداً خلف الإمام، وقفز إلى ذهنه صورة العشرات المتسكعين حتى انتصاف الليل في المقهى.
خطر في باله شراء معدات الشاي والقهوة ولوازمهما من كيسه الخاص ووضعها في المركز، لكنها بدت له فكرة ساذجة، فما يجذب رواد المقاهي أكبر من المشروبات.
قضية حازت على اهتمامه، إنها مسألة تَفَوُّق دور اللهو على أماكن العبادة !. أليست النار قد حُفّت بالشهوات؟!.
وشأنه كشأن أي داعية يرى جموعاً من المسلمين تضل طريق الهداية، فيتخلى عن مصالحه الخاصة وينبري للقيام بواجبه تبرئةً للذمة أمام المولى تبارك اسمه، ويرى أن القدر من رتب له ذلك لكسب الأجر، لكن عليه دراسة الموقف جيداً، فبيئة المقهى تعني مدعوين من مستويات ومشارب شتى.
عزم على التجرد من أي قناعات مسبقة، والاطلاع على الوضع كما هو، من ثم استخارة الله في أسلوب الدعوة المناسب. هاتفَ رفيقه الذي ذهب معه ليلة أمس، ليخبره أنه يود معاودة الكرّة.
سأله صاحبه: أتريد عامل السباكة؟ أنبأه أن لديه شأناً آخر.
صلى المغرب واصطحب صاحبه الذي مازحه بقوله : إلى معاطن الشياطين، اكتفى بالقول ستعلم فيما بعد .
هنا اغتنم صاحبه الفرصة ليؤكد وجهة نظره، فهو من رواد المقاهي، وهو الذي كان يقول: إن المقهى مكان استجمام وعمل أيضاً، أما من يلعبون القمار فهم نزر يسير بالنسبة لباقي الرواد.
لم ينبس ببنت شفة واكتفى بهز رأسه، فقلبه لم يكن مع محدِّثه!. استأسره سر منافسة المقهى للمسجد.
هذه المرة كانت الطاولة التي جلسا عليها تتوسط الحضور، وفيما كان صاحبه يقتل الوقت بالكلام
كانت أذن صاحبنا تحاول استراق السمع.
عاد من سهرته الأولى ليدون في مذكرة خاصة النقاط التالية:
* لم يُفْتِ عالم واحد بتحريم المقاهي بشكل مطلق.
* المقاهي أماكن عامة .
* بعض المقاهي غالبية روادها مسلمون .
* رواد المقاهي أكثر من رواد المسجد .
ثم امسك بالقلم الأحمر ليخط
كيف ندعو هؤلاء.....؟ ! .
استلقى على سريره وفكره يجوب بين قبائل الرأي،كلما لاح له قبس وآنس طريقة، أعرض عنها لصعوبة استئناسها، قال لعقله قم بعملية العصف الذهني الدعوي..
أولى الخواطر إلقاء كلمة على مسامع أولئك الذين يفضلون جلسة المقهى، تحدثهم عن الموت وعذاب القبر .. رد الفكرة فمن غير الممكن أن ينصت له الجميع ، وستبدو كلمته نشازاً .
لمع في ذهنه أن يكتب لوحات كبيرة، تحوي آيات شريفة وأحاديث نبوية. ولكن من يضمن أن صاحب المقهى يقبل بأن تنصب شواخص في مقهاه، وحتى لو قبل فإن الناس سوف تستمرئ النظر إليها مع الوقت.
طاف فكره في المعاصر من وسائل الدعوة، فتذكر المطويات (أو ما يسمى بالبروشورات) وهي قصاصات ورقية تعنى بموضوع دعوي، بيد أن تجاربه الدعوية تقول: إن الكلمة المكتوبة يتوقف أثرها على المتلقي من حيث المستوى والاهتمام .
وبين هذا وذاك اقتنع أنه بحاجة لدراسة الواقع، ومن ثم اقتراح الحلول.
أخذ يدلف كل ليلة إلى المقهى، وغدا وجهه مألوفاً لرواد المقهى، ويجلس إليه أو معه أشخاص تتباين مستوياتهم وثقافتهم، كان يشتري الكلام ولا يبيع، إلا نادراً، ويبحث بشكل غير مباشر عن مقصده وهو حريص على التقاط كل شاردة وواردة، وتؤرشف ذاكرته كل ما يقال، فإذا ما عاد إلى شقته دوَّنَ كل ما سمع ورأى.
انصرم شهر كامل، وتجمع في مذكرته كمٌّ هائل من القصص، والأماني، وما إلى ذلك من غث الكلام وسمينه، أخرج حصيلته وأخذ يُبوِّب هاتيك المعلومات، إنه يبحث عن طرف البداية لدعوة رواد المقهى، لازمه الإحباط وكاد يتحسر على ما أنفق من وقت وجهد ومال، بدا ملخصه عن ذلك أشبه بطلاسم، فحالات كُتبت حروفها من معجم الكسل، وأخرى خُطت كلماتها من قاموس ضعف الإيمان، وثالثة رسمت صيغها بلهجات رفقاء السوء، أما المداد فكان من غدير الشهوات الآسن، والتسويف أضفى على ذلك كله بريق خُلَّب، أقعد العقول عن العمل.
فأنى لمدخل دعوي بين متاهات مترابطة أشبه بوكر الثعلب، ما إن يدخل من طرف حتى يخرج من أخر .
صلى ركعتين صلاة الاستخارة، فقد عود نفسه ألا يُقْدم على عمل إلا أن يستخير، دعا الله في سره أن يلهمه الصواب، وقضى سحابة يومه التالي يفكر في الأسلوب الأمثل. بعد صلاة العصر، وكان يوم عطلة، جلس ينتظر الفتح من المولى، وإلى جانبه قارئ للقرأن تلا آيات استرعت انتباهه وأخرجته مما هو فيه، لقد مر على قوله تعالى:
( أم لهم قلوب لايفقهون بها...) الأعراف 179
فأخذ يردد تلك الآية مرات ومرات، قال في نفسه: نعم من القلب يبدأ الإيمان، وما حجب أولئك القابعين خلف طاولات المقهى إلا الران الذي غلف قلوبهم، ويجب البدء معهم من حديث القلوب .
صلى المغرب وخرج مسرعاً إلى ميدان عمله الدعوي الجديد المقهى، فما إن يجلس إليه أحدهم وينهي كلامه العادي، مما اعتاد سماعه، حتى يفاجئه الداعية بسؤال:
هل لك صلة مع الله ؟ .
سؤال مفاجئ للمتلقي، بعضهم يجيب: نعم، أنا أومن بالله. أنا مسلم .
يرد الداعية: لم أسألك عن الإيمان والإسلام، فأنا أعلم أنك مؤمن ومسلم، إنما سؤالي حصراً عن صلتك بالمولى سبحانه ؟ .
تدفع الحيرة بعض المسؤولين، لمحاولة أن يبرهن على صلته بالله، فيقول: أذكر الله بعض الأحايين .
فيقول الداعية: وهل طلب منك إسلامك الاكتفاء بالذكر اللساني وقتما عنّ لك ذلك ؟.
فيكمل بعضهم وأصوم رمضان، فيقول الداعية: وهل عبادة واحدة تجزي عن باقي العبادات التي يحبها الله منك؟ . وبعضهم يكتفي بأنه لا يرتكب الحرام، ثم يأخذ الداعية بشرح مبسط عن الإسلام- التكاليف بشقيها- ثم يتساءل أمامهم: هل كفل إسلامنا النجاة لأحد يوم القيامة ما لم يأتِ بجميع ما يستطيع فعله، وترك ما نهي عنه ؟.
إنها أسئلة توقظ الإيمان في أعماق الصدور. من ثم يأخذ بذكر قصص عن السلف وتطبيقهم العملي للإسلام، ويلوذ بالصمت، تاركاً للوقت دوره، حتى تنمو البذور في القلوب، فإذا ما حان وقت العشاء يستوي واقفاً وقائلاً : طاعة المولى دخل وقتها .
أخذت أعداد تهبُّ معه إلى المسجد، فقد أدركت أنها مقصرة بحق المولى سبحانه، حتى غدو زمراً تخرج وقت الصلاة.
وما زال العمل مستمراً.
* مسند البزار، وضعفه الألباني