نورٌ

مصطفى حمزة

[email protected]

خَرجَ من غُرفةِ مكتبه وراحَ يتمشّى باتّجاه البحر ، وصلَ إلى الصخرةِ العاليةِ الكبيرةِ الملساءِ التي يرتاح عندَها كلَّ يومٍ ، جلسَ في موضعه وراحَ يتأمّلُ البحرَ بعينين ساهمتين مُتعَبَتَين .. البحرُ هائجٌ جدّاً هذا اليومَ ! لمْ يعتَدْ أنْ يراهُ كذلك ! لقد ألِفَ هذا الشاطئَ منذ أكثر من سنةٍ ونصف ، لكنّه لم يره كاليوم هياجاً وغضباً ! أحسّ بأنّه لا يُحبّ البحرَ ؛ مع أنّه طالما جلسَ عندَ هذه الصخرة ذاتها ، وكتبَ خواطرَه يُناجي بها البحـرَ ، هذا البحرَ نفسه !

ماذا جرى له اليومَ ؟!

التفتَ إلى الوراء وراحَ يستعرضُ بنظره محتويات المستودعِ الكبيرِ الذي يمتدّ أمامَه بضعَ مئاتٍ من الأمتار ، كلّ هذا أمانة في عُنقه ؟ ! أكواع وتِيهات ، ووصلاتٌ ، وبَراغٍ ، وكلّ القطع الخاصّة بأنابيب جرّ المياه من النهر البعيد إلى المدينة . هذه الأنابيب المعدنيّة المرصوفة إلى بعضها حِزَماً حِزَماً  وازدادت ضَرباتُ قلبه حينَ توقّفت عيناه عندَ تلك القضبان المعدنيّة التي تطوّق كلّ حزمة من تلك الأنابيب !

قفز إلى سمعه كلماتُ سائق الرافعة :

- أترى تلك القضبان يا أستاذ طاهر؟

- ما لَها ؟

- إنّ قطرَها اثنا عشـر ملمتراً ، أتدري ، إنها مفقودة من السـوق؟ وهناك مَنْ يدفع لك ثمنها المبلغ الذي تريده ..

- يعني ؟!

- يعني ، لو ننزعها عن الأنابيب ، ونجمعها ، وأنا أعرف رجلاًً مسـتعداً لأن يأتي إلى هنا  ويدفع ثمنها في أرضها ، والنقل على حسابه ... ما رأيك ؟

- يعني نسرق يا أبا محمد ؟!

- هذه ليست سرقة يا أستاذ طاهر، ليست سرقة .. اسمعني، نحن نُرحّل هذه الأنابيب بالعدد أليس كذلك ؟

- أجل !

- والقضبان هذه ، بعدَ نزعها ستبقى في المستودع ، ولن يسأل عنها أحد ، لأنها ليست في القيود ، أليس هذا صحيحاً أيضاً ؟

- أجل !

- إذن ؟!

- وبكم تظن أنها تُباع ؟

- بالكثير يا أستاذ ، بالكثير .. إنها تُساوي ذهباً هذه الأيام .. ستضع في جيبك مبلغاً محترماً ألا تُريد أن تأتي ببنت الحلال ؟! والله يا أستاذ طاهر يكفيك سنتان خطبة  !!

   وعادَ بنظره إلى البحر ، كانت موجةٌ عظيمةٌ تزحف نحو الصخرة التي يجلس فوقها ! لقد خُيّل إليه للحظةٍ أنها حصانٌ جامحٌ يُريد أن ينقضّ عليه ! انكمشَ على نفسه خائفاً ، قبلَ أن تتبدّدَ الموجةُ وتتلاشى على الصخور ! 

أسندَ ذقنه براحتيه .. إنّه يُحسّ بإرهاق شديدٍ .. تذكّرَ أنّه لم يَنَمْ ليلةَ أمس ، لقد أمضى الليلَ يتقلّبُ دون أن يستطيعَ الإغفاءَ ولو لحظةً واحدةً ! حاولَ أنْ يقرأ في كتاب ؛ لكنّه أحسّ بغُربةٍ مُرّةٍ بينه وبين الكتاب ، وكأنّ الكتابَ لا يُريده! قامَ فتوضّأ ودخلَ في الصلاة ، شعر وهو يقرأ الفاتحةَ وكأنّه يقرأ في جريدة يوميّة ! أينَ القداسةُ التي كانت تتنزّلُ عليه وتلفحُ كيانه لحظةَ يدخلُ في صلاته ؟! حتى القِبلةٌُ ، هذه الوجهة التي وقفَ أمامها عشرين سنةً ، يشعر حيالها هذه الليلةَ بأنه غريبٌ نَجِسٌ في محرابها الطاهر ! رمى بنفسه على الكَنَبةِ مرهقَ الأعصاب ، وأسندَ رأسَه إلى الوراء ، ولمّا وقعتْ عيناه على صورة المرحوم والده المعلّقة على الحائط المقابل سرتْ بجسمه قُشعريرةٌ رهيبة رجفتْ لها أطرافه ! كانت الصورةُ بديعةَ الإطار ، هادئةَ الألوان ، تُضفي عليها ملامحُ صاحبها الطيبةَ والسماحةَ والصَلاح !

 انتبهَ على دمعتين تجريان على خدّيه ، فمسحهما ، وقامَ ليعودَ . وقبلَ أنْ يخطو خطوةً واحدةً رفعَ وجهه إلى السماء ، ودُهشَ أنْ رأى الغيومَ تنكشفُ شيئاً فشيئاً عن صفحةٍ زرقاء غايةٍ في الروعة ! ونظر

إلى البحر ، لقد كان رائعَ الزُرقة ، هادئاً ،  تُداعبه نسماتٌ رقيقة !