رجل فيه سمات

رجل فيه سمات

د. مازن سعد الدين

[email protected]

أتى شابّان إلى الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه

وكان في المنتدى وهما يقودان رجلاً من البادية فأوقفوه أمامه

‏قال عمر: ما هذا

‏قالوا : يا أمير المؤمنين ، هذا قتل أبانا

‏قال : أقتلت أباهم ؟

‏قال: نعم قتلته !

‏قال : كيف قتلتَه ؟ ؟

‏قال : دخل بجمله في أرضي ، فزجرته ، فلم ينزجر،

فأرسلت عليه ‏حجراً ، وقع على رأسه فمات ...

‏قال عمر : القصاص ..

‏الإعدام .. قرار لم يكتب .. وحكم سديد لا يحتاج مناقشة ،

لم يسأل عمر عن أسرة هذا الرجل ،

هل هو من قبيلة شريفة ؟ هل هو من أسرة قوية ؟

‏ما مركزه في المجتمع ؟

كل هذا لا يهم عمر - رضي الله عنه -

لأنه لا ‏يحابي ‏أحداً في دين الله ،

ولا يجامل أحداً على حساب شرع الله ، ولو كان ‏ابنه

‏القاتل ، لاقتص منه ..

‏قال الرجل : يا أمير المؤمنين :

أسألك بالذي قامت به السماوات والأرض ‏أن تتركني ليلة ،

لأذهب إلى زوجتي وأطفالي في البادية ،

فأُخبِرُهم ‏بأنك ‏سوف تقتلني ، ثم أعود إليك ،

والله ليس لهم عائل إلا الله ثم أنا

‏قال عمر : من يكفلك أن تذهب إلى البادية ، ثم تعود إليَّ ؟

‏فسكت الناس جميعا ً،

إنهم لا يعرفون اسمه ، ولا خيمته ، ولا داره ‏ولا قبيلته ولا منزله ،

فكيف يكفلونه ، وهي كفالة ليست على عشرة دنانير ،

ولا على ‏أرض ، ولا على ناقة ،

إنها كفالة على الرقبة أن تُقطع بالسيف ...

 

‏ومن يعترض على عمر في تطبيق شرع الله ؟

ومن يشفع عنده ؟

ومن ‏يمكن أن يُفكر في وساطة لديه ؟

فسكت الصحابة ، وعمر مُتأثر ، لأنه ‏وقع في حيرة ،

هل يُقدم فيقتل هذا الرجل ،

وأطفاله يموتون جوعاً هناك أو يتركه فيذهب بلا كفالة ،

فيضيع دم المقتول ،

وسكت الناس ، ونكّس عمر ‏رأسه ، والتفت إلى الشابين : أتعفوان عنه ؟

‏قالا : لا ، من قتل أبانا لا بد أن يُقتل يا أمير المؤمنين ..

‏قال عمر : من يكفل هذا أيها الناس ؟!!

‏فقام أبو ذر الغفاريّ بشيبته وزهده ، وصدقه ، وقال :

‏يا أمير المؤمنين ، أنا أكفله

‏قال عمر : هو قَتْل ، قال : ولو كان قتلا !

‏قال : أتعرفه ؟

‏قال : ما أعرفه ، قال : كيف تكفله ؟

‏قال : رأيت فيه سِمات المؤمنين ، فعلمت أنه لا يكذب ، وسيأتي إن شاء ‏الله

‏قال عمر : يا أبا ذرّ ، أتظن أنه لو تأخر بعد ثلاث أني تاركك !

‏قال : الله المستعان يا أمير المؤمنين ..

‏فذهب الرجل ، وأعطاه عمر ثلاث ليال ٍ، يُهيئ فيها نفسه ، ويُودع ‏أطفاله وأهله ، وينظر في أمرهم بعده ، ثم يأتي ، ليقتص منه لأنه قتل ...

‏وبعد ثلاث ليالٍ لم ينس عمر الموعد ، يَعُدّ الأيام عداً ،

وفي العصر ‏نادى ‏في المدينة :

الصلاة جامعة ، فجاء الشابان ، واجتمع الناس ،

وأتى أبو ‏ذر ‏وجلس أمام عمر ،

قال عمر: أين الرجل ؟

قال : ما أدري يا أمير المؤمنين !

‏وتلفَّت أبو ذر إلى الشمس ، وكأنها تمر سريعة على غير عادتها ،

وسكت ‏الصحابة واجمين ، عليهم من التأثر مالا يعلمه إلا الله .

‏صحيح أن أبا ذرّ يسكن في قلب عمر ،

وأنه يقطع له من جسمه إذا أراد ‏لكن هذه شريعة ،

لكن هذا منهج ، لكن هذه أحكام ربانية ،

لا يلعب بها ‏اللاعبون ‏ولا تدخل في الأدراج لتُناقش صلاحيتها ،

ولا تنفذ في ظروف دون ظروف ‏وعلى أناس دون أناس ،

وفي مكان دون مكان ...

‏وقبل الغروب بلحظات ،

وإذا بالرجل يأتي ،

فكبّر عمر ، وكبّر المسلمون ‏معه

‏فقال عمر : أيها الرجل أما إنك لو بقيت في باديتك ،

ما شعرنا بك ‏وما عرفنا مكانك !!

‏قال : يا أمير المؤمنين ، والله ما عليَّ منك ولكن عليَّ من الذي يعلم السرَّ وأخفى !!

ها أنا يا أمير المؤمنين ،

تركت أطفالي كفراخ ‏الطير لا ماء ولا شجر في البادية ، وجئتُ لأُقتل ..

‏فوقف عمر وقال للشابين : ماذا تريان ؟

‏قالا وهما يبكيان : عفونا عنه يا أمير المؤمنين لصدقه ..

‏قال عمر : الله أكبر ، ودموعه تسيل على لحيته ...

‏جزاكما الله خيراً أيها الشابان على عفوكما ،

وجزاك الله خيراً يا أبا ‏ذرّ

‏يوم فرّجت عن هذا الرجل كربته ،

وجزاك الله خيراً أيها الرجل ‏لصدقك ووفائك ..

‏وجزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين لعدلك ورحمتك ...

‏قال أحد المحدثين :

والذي نفسي بيده ، لقد دُفِنت سعادة الإيمان ‏والإسلام ‏في أكفان عمر !!.