الشهبندر
حسين راتب أبو نبعة
جامعة الملك عبد العزيز
كلية المعلمين بمحافظة جدة
عندما لاحظ ابي – أطال الله في عمره – أنني لم أستطع بيع( الترمس) الملفوف في ورق
مخروطي الشكل في ساحة المدرسة المجاورة لمنزلنا و عدت ببعض القروش شعر بالإحباط من
عدم حنكتي في البيع ، و كان تهكمياً في طبعه ، يبطن حديثه بكلام جارح،بادرني
قائلاً:" ها قد عدت يا شهبندر التجار ! لماذا فشلت في بيع ما جهزناه لك؟هل أكلت
القطة لسانك؟
لم أكن أدرك وقتذاك معنى كلمة شهبندر غير إني أدركت من ملامح وجهه و نبرات صوته
أنها لا تحمل في سياق العبارة معنى ايجابي. لم أتمالك نفسي إزاء إخفاقي في أول
مهمة تسويقية من البكاء فانهمرت دموعي ساخنة متدحرجة بهدوء على وجنتي.
كنت أخشى أن أبوح بمكنونات نفسي أمام أبي فقد كان ضخم الجثة عريض المنكبين، كث
الشاربين ممتلئ الشفتين و كان غضبه لا تحمد عواقبه فهو إن لم يجد شيئاً يقذفك به
خلع حزامه و لوح به كأنه يروض حصاناً برياً.
لم تتح لي فرصة الدفاع عن موقفي فقد كانت ساحات المدرسة مزدحمة بطلاب أكبر مني و
أشد بنية و يحملون ما لذ و طاب من مأكولات و حلويات شعبية نالت استحسان الطلاب فأدى
ذلك إلى كساد بضاعتي. كان لي جسم نحيل لا يقوى على معاركة من هم اكبر مني سناً. مرت
السنون و اشتد عودي و التحقت بالمدرسة الثانوية، اجتهدت كثيراً غير أن استيعابي
كان محدوداً في مادة الفيزياء فأخفقت في اجتياز الثانوية من أول مرة. قرعت عبارة
أبي جدار الذاكرة من جديد و أصبحت كابوساً يلاحقني و بقيت كلمة الشهبندر في نفسي
جرحا مفتوحاً و شاهداً على انكساري.
ذات صيف التحقت بتشجيع من أمي بمدرسة لتعليم قيادة السيارات و خضعت لتدريب مكثف ،
و تنباً لي المدرب الحصول على الرخصة سيما و أني أتقنت كافة المهارات المطلوبة، و
كانت سيطرتي رائعة و تعاملي مع الشارع دقيقاً مما أثار إعجاب المدرب و كان يضرب بي
الأمثال أمام بقية المتدربين المترددين في الانتباه و الدقة و الالتزام بالشواخص.
ذهبت لدائرة السير في اليوم المضروب لاختبار السوق مبكراً ن و كنت واثق الخطى بحيث
تخلصت من رهبة الامتحان بفضل التدريب المكثف.
صعد في السيارة شرطيان احدهما برتبة ضابط.تفقد الملف و الأوراق الثبوتية ثم طلب
مني الانطلاق.كان يجلس على ميمنتي أما الشرطي الآخر فقد رأيته من خلال المرآة و كان
يحدق بي كالصقر. تحركت بهدوء و مشيت وفقاً للتعليمات ، و حسب توصيات المدرب انتبهت
لدقائق الأمور و اتبعت الأولويات بحذر. ما هي إلا دقائق حتى طلب مني الضابط التوقف
على اليمين قليلاً .توقفت حسب التعليمات ثم انطلقت ثانية. فاجأني مطب حديث و كان
مرتفعاً و حاولت التعامل معه بهدوء و حنان زائد.مرت في ذاكرتي عبارة أبي مثل نيزك
خرج عن مساره، فجأة توقف المحرك عن الدوران ، ارتبكت و نظرت الى من بجواري و كان قد
أغلق الملف. بعد دقائق كنت أحمل في جيبي إشعار الرسوب و به بعض الأسباب مثل الوقوف
في مكان ممنوع فيه الوقوف أو التوقف و عدم التعامل مع مبدل السرعة بصورة
صحيحة......
مارست عدداً من الأعمال التجارية و كنت أخرج من كل مصلحة مثقلاً بالديون حتى من
الله علي أخيراً بوظيفة حكومية متواضعة الدخل إلا أنني منذ مباشرتي لم أتعثر في
خطواتي و أصبحت مشاريعي حبيسة الأدراج بسبب ضعف التمويل. و أهم ما في الأمر لم
تواجهني أية مشكلة تذكرني بعبارات أبي !