بين السينما والبيت
بين السينما والبيت
أحمد ناصر نور الدين
خرجت من صالة السينما ومشت في الشارع بوعي سليب. وما تزال تستعيد بخيالها صورة البطل المفعمة وسامة وأناقة، ويخفق قلبها لشبابه وفحولته. وقالت في سرها باستنكار وهي تميل الى عطفة جانبية "سحقا! لماذا لا نصادف مثله في الحياة اليومية." كانت تعيش في عالم يكتنفه الملل ويصبغه لون الرتابة التي راكمت على صدرها أكواما من الأثقال. وتصحو كل صباح وفي رأسها ثقل وفي نفسها شعور بالتعاسة. فليس ينتظرها في يومها ما هو أحسن مما لاقاها في أمسها! وتتساءل بحيرة "ترى هل كل البنات في سني يحيون الحياة نفسها؟!" لو كان ذلك كذلك فعليك يا دنيا السلام!
وتحث سيرها مسابقة شمس الغروب. الى أن تصل الى نقطة الباص فتقف عندها، وكان يوجد نفر قليل ينتظرون. وفي نفسها أطلقت تنهدة حالمة. واسترسل بها الفكر في وديان الأحلام فتساءلت متى يظهر العريس؟ ببذلته الأنيقة ووسامة المشرقة، ويدخل بيتها مع نفر من الأهل، فيطلب يدها أميرة للبيت الدافئ والحياة السعيدة! وعاودها التنهد لكن بصوت مسموع هذه المرة فغشيها بعض الارتباك وتلفتت فيما حولها بحذر. وفي الباص لم تكن أسراب الحمائم قد غادرت سماء خيالها بعد، فاستسلمت لنشوة الخواطر وواصلت تحليقها في سماوات من الصور والأحلام. وأثار قلقها تساؤل طالما يراودها فيكدر صفو أحلامها. هل سيكون في حوزة العريس ما يكفي من مال ليجلب لها ما تشتهيه من صنوف العيش؟! ولشد ما تمقت الفقر مقتا جلب عليها بعض التصورات والإحساسات التي تثير في نفسها نكدا داخليا، فباتت تكن للفقراء نوعا من المقت المغلف بأغلفة الشفقة واللوم والتأنيب. ولو أن أبويها خارج دائرة الفقر لطاب لها أن تعاين الفقراء وعالمهم الباعث على الكرب والشقاء، بكل أنواع الكره والمقت والتقزز والنفور. وبالتفكير بعريسها المؤمول، فإنه لم يكن من شيء يثير قلقها ويحرك مشاعر الخوف والتوجس لديها مثل فكرة أن يكون من داخل هذه الدائرة المقيت للفقر، فمعنى أن يكون من داخلها هو موعد متجدد مع الشح العيش، وعقد سرمدي مع الحرمان والتقشف والكآبة التي تطاردها في كل زاوية من حياتها الراهنة!
وعندما وقف الباص ذات مرة، صعد رجل يتلفع بمعطف أخضر اللون، ويعتمر بقبعة صوفية بلون رمادي، فدق قلبها بعنف لمرآه، وخيل اليها للوهلة الأولى أن هذا الرجل هو أبوها! ولكنها أفاقت من ذعرها على هيأة الرجل اذ استدار وهو مقبل فتيسر لها أن ترى وجهه بشيء من الوضوح والتوكيد. وتنهدت براحة وهي تراه يجلس في مقعد. كان حسب ما قدرت يكبر أباها بنحو خمس سنوات وكان يشاركه سمرة البشرة، الا أنها لاحظت زرقة في عينيه غريبة، الى جانب وحمة سوداء، امتدت اسفل العين اليسرى الى اخر الخد. وقد ترك مظهر الرجل وصورته انطباعا غامضا لديها وشعورا بالغرابة، وانتابها احساس بالانقباض لم تفلح في كشف باعثه، وأسندت جانبها الأيسر الى الجدار اسفل النافذة، وسرحت بطرفها ووعيها خارج النافذة، حيث كانت الشمس تلامس الاشياء لمسة الوداع.
وتحت جسر المطار غادرت الباص لتتجه شمالا حيث سارت الى جنب مركز البلدية الذي يجثم بفخامته وهيبته ساخرا من وضاعة الحي الصغير الذي تسكنه وتهكع أبنيته القديمة.
وسألتها أمها من موقفها في المطبخ:
- لماذا تأخرت؟
فرفعت كراسة كانت تحملها، وتمتمت:
- الدرس!
فقالت الأم بلهجة ذات معنى:
- سأل عنك أبوك.
فلاحت في وجه الفتاة نظرة قلق حاولت طمسها وهي تسأل بصوت خفيض:
- ماذا قلته له؟
- ما حصل!
- واين هو الآن؟
فهزت المرأة رأسها بإشارة الى غرفة نوم الأبوين، وقالت:
إنه يصلي. ثم استطردت قائلة:
- بدلي ملابسك وتعالي لتتناولي عشاءك.
ومضت الى غرفتها يساورها بعض الخوف والقلق. وكان باب غرفة أبيها مفتوح عن شق يسير، وتناهى الى اذنيها وهي تخلع ملابسها صوته الأجش في تمتمات مازجتها عبارات التسبيح. فبعث الصوت في نفسها احساسا غامضا بالرهبة والانقباض، واختلج في عقلها اعتقاد بأن سرها سيفضح ذات يوم، وبأن أباها سيكتشف أكاذيبها وحيلها في الخروج من البيت، وزاد لهذا الخاطر انقباضها وزفرت بشكل عميق حاد. ولم تستطع وهي تمشي الى المطبخ- مارة بغرفة أبيها- أن تتصور ردة فعله في حال انكشف المستور.
لكن وهي تجلس على الكرسي الى طاولة العشاء، عاودها من جديد مظهر البطل وتراءت لعينيها صورته الجذابة، فخفق قلبها خفقة السرور، وشاع في داخلها انشراح وبهجة، فتضاءل خوفها حتى تلاشى أمام هذه الموجة من الحبور، وانبسطت نفسها بعد انقباض، فأقبلت على الطعام بشهية غير معهودة.