الصقيع الأخير

الصقيع الأخير

سحر المصري

طرابلس - لبنان

[email protected]

ما عاد للكون متّسع للحلم.. فقد ضاق الأفق وامتزجت الأوردة بطعم الرحيل ولم يبقَ الا القليل لتسليم الأمانة..
ترابط أمها بجانب سريرها تعجن الحزن وتخبزه وهماً وتهديه للمغيب كل يوم.. وتنتظر أن يعرِّج الصقيع من أصابع قدمَي ابنتها الرابضة في فراشها منذ أيام تنتظر مصيرها المحتوم.. تخنق في صدرها عويل وتنهدات وتخطُّ بسمةً بلون الرماد على وجهها علّها ترسل شعاع أملٍ في قلب ابنتها وقد أذابته الخطوب التي طرّزت عليه كل أنواع الهموم فاستسلم مكبِّراً أربعاً على عمرٍ توقفت حروف السعادة فيه عن البوح مذ كانت في الثانية والعشرين من العمر..
صور سريعة.. تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب لتتوقف عند تلك اللحظة المشؤومة.. يوم خرجت ابنتها من عالمٍ إلى عالم يُفترَض أن يكسوه البياض منذ أول ليلة ولكنه القدر.. وسوء الاختيار.. ولا زالت تدفع ضريبة جهلها غالياً.. ولم يرضَ الا بشبابها المُزيَّن بإكليل الياسمين ففاح أريجه برهة ثم استتر.. مضغت حقيبتها كل ذكريات الهناء الذي رفلت فيه عند أهلها وعادت بحقيبة يفوح منها النتِن بعد أن هدرت الحياة على مذبح زواج علقم..
ترفع رأسها المثقل بالذكريات الأليمة وتضع يدها على قلبها المزنّر بغصّاتٍ لئام وتفتش عن نَفَس حب طالما غمرها: "ماما.. هل أنتِ هنا؟" فتتدحرج دموع ملتهبة على صفحة قلب أمها.. تحاول جاهدة أن لا يتغيّر صوتها المطعون بالأسى وتردّ عليها: "نعم يا حنان.. أنا هنا.. هل تريدين شيئاً؟"
تتقدّم الأم بخطوات نحو ابنتها وتضع رأسها على صدرها وتلعب بشعرها الناعم الطويل.. وتنظر الى وجهها الذي طالما فتن بسماحته ونوره مَن تعرّف على حنان.. "ماما أريد ماءا" تناولها أمها الماء فلا تستطع أن تبلع الا نقاط قليلة.. ثم تبادرها بسؤال: "ماما.. هل سيغفر لي ربي؟ ما زلتُ أحلم به.. ما زلتُ أحبه!" فتختنق الأم من جديد "حنان.. لا أدري لِم تجعلين من قصتك هذه سبباً لعدم رحمة الله لك.. الحب ليس بأيدينا وهي مشاعر تسكننا وقد قطعتِ هذه العلاقة منذ زمن ولم تستمري فيها لأنك تخافين الله فلِم تحمّلين نفسك فوق طاقتها؟ ألا يكفي ما عانيتِ خلال سنوات عجاف؟ ارحمي نفسك إن لم تكوني تريدين أن ترحميني!"
تجهش حنان بالبكاء.. توقفت عقارب العمر مذ دخلت ذاك الباب ولم تعاود الحركة إلى يوم الخروج منه.. لزمها سنوات بعدها لترى ألوان الربيع.. عشر سنوات أو أكثر.. كمن خرج من سجن فوجد الشيب قد اكتسى شعره.. فحاسبوه على عمرٍ لم يكن حياً فيه.. وانتزعوا منه سعادة اعتبروها حراماً عليه لأنه لا يستحقها!
"ما ذنبي يا أمي؟ قتلوني مرتين!"
تنظر الأم يمنة ويسرة.. فقد حاولت زمناً أن تُنسي ابنتها تجربة زواج فاشل وحين أفلحت قليلا قابلت حنان شاباً يصغرها بسنوات قلائل.. ولكنها لم تكتمل الحكاية بينهما فقد رفض أهلهما تتويج هذا الحب في علاقة تجمع قلبيهما العاشقَيْن.. فأهلهها كانوا يخشون عليها من تجربة أُخرى ليس فيها مقوّمات السعادة بنظرهم.. وأهله رفضوا زواج ابنهم البكر من مطلّقة!.. نظرا في الشرع فلم يجدا مانعاً إن أراد وقبلَت.. ولكنه مجتمعٌ بغيض ذو أحكام ضيّقة تسيطر حتى على من يطبّقون الدين.. فهو محصور عندهم في العبادات أما حين يقرب مقصه لينفي أعرافاً بالية فهنا لا بد من أن يضعوا له الحدود! وإلا فماذا يقول عنهم الناس؟!
كانت مشاعرها لأكثر من ست سنوات مسخّرة له وحده.. لم تستطع الارتباط بأيّ رجل تقدّم لخطبتها بالرغم من كثرة الخطّاب لكونها جميلة وملتزمة ومتعلمة.. وإن تحدّت نفسها واستقبلت شاباً في بيتها أول ما تنظر في عينيه تجد بريق عيون من تحب.. وترقب يده ثم تنتفض وتخرج من الجلسة لتصرخ ملء فاها: "شتّان بين هذا وذاك"!
أمضت عمرها وهي تحلم.. حتى شابت مفارقها.. وتعب القلب من الانتظار.. وصدقت نبوءة الطبيب فلم تعد تقوى على الانصهار في بوتقة محيطها.. وباتت عضلة الأبطن تجاهد لتنبض..
وهذه هي نهايتها بعد أن اختصرت وجودها بالحلم الذي سكن في أعماق ذاتها.. وانسلّت كشمعةٍ أشعلها فذابت رويداً رويداً حتى قاربت على الاختفاء..
"ماما.. سامحيني"!
بكت الأم.. ووضعت رأس طفلتها الكبيرة على الوسادة بحنو.. مدّت يدها وأخذت من جانب حنان دفترها الصغير الذي أدمنت ابنتها الكتابة فيه.. وخرجت من الغرفة تسابق آهاتها التي بلغت عنان السماء.. جلست في الصالة تقلّب صفحاته المبللة بحنين وأنين وعشقٍ مفقود.. تقرأ وتبكي.. وتوقفت طويلاً عند همسات مُحرِقة:
"أنا منذ زمنٍ على شفير الانهيار.. وكان ينقصني.. قرار! سعادتي بدعة.. وعار.. وأمانيِّ ضلالة.. وكل ضلالةٍ في النار! فيا قلبي انتَحِب.. وتجرَّع الأهوال.. ثم حوقِل.. ونهايتك ارتقِب.. ثم.. بماذا أنصحك غير أن.. تحتسِب؟!
فاحْتَسِب!"
ونهايتك ارتقب!.. وها هي النهاية يا حنان التي طالما ارتقبتيها.. قد حانت ولا أملك من الأمر شيء فقد ضاق الخناق! ثم وقفت على نافذة غرفتها تنتظر الأذان وتراقب الغيوم المتلبدة في كبد السماء.. وبدأت قطرات مطر تطرق الزجاج كأنها بها تسقط على رأسها المنهك من الخوف والترقب.. دعت الله كثيراً أن يغفر لابنتها ويخفف عنها ما تجد..
أتت بوعاء فيه رمل لتتيمّم حنان منه.. وضعته على المنضدة والتفتت الى حنان وهي هامدة في سريرها.. انتابها احساس غريب.. غصّت بريقها.. واقتربت منها.. لتجدها تسبح في عالم علوي.. وفي يدها قصاصة ورق صغيره.. مكتوبٌ عليها.. "والله.. ما أنصف الدهر بيننا"!
ارتفع صوت الأذان.. الله أكبر الله أكبر..
خرَّ قلبها ساجداً..
وصاحت: حي على الصبر والمصابرة!