النجوم المنطفئة

محمد صباح الحواصلي

محمد صباح الحواصلي

كاتب سوري مقيم في سياتل, الولايات المتحدة

[email protected]

ودعتهم قبل أن أصعد إلى ظهر السفينة. قبلت الجميع: أمي وزوجتي وأطفالي. تجمعت غصة في حلقي فنهرت نفسي: "لا تضعف," ثم جمعت أشلائي التي كادت أن تنهار, وحرصت ألا أنطق بكلمة وداع كي لا يظهر ضعفي الذي تورم في حلقي وأعجزني عن الكلام. حملت حقيبتي واستدرت صاعدا سلم السفينة. عند مستهل السلم استوقفني رجل الأمن وهو يقلب جواز سفري:

"إلى أين اتجاهك؟"

"لا أدري."

"إذن اصعد."

وقفت على ظهر السفينة ملوحا لهم من جديد وقد بدت لي رؤوسهم وكأنها   الحقيقة الوحيدة في الوجود, كالمشمس التي قدر لي ألا أكف عن التحليق في قرصها الملتهب. وعندما شرعت السفينة تصفر مؤذنة بالرحيل, لم أتمالك نفسي فهتفت وقد غلبني الوجد:

"لن أطيل الغياب.. سأعود."

السفينة ترحل. تسير في ريح رخاء ماخرة عباب المياه. كنا نلوح بحميمية توحي بالقلق, تلويح ينبئ عن زمن مرعب.. عن غربة مظلمة موحشة, عن موت في الحياة وفراق ابدي. كانوا يصغرون كلما ابتعدت السفينة ويكبرون في أعماقي إلى أن غابوا جميعا وطويت صفحة الوطن وراء ذلك الأفق المحدودب. لحظتها سالوا دموعا ساخنة من مقلتي فنهرت نفسي ثانية: "لا تضعف." جففت دموعي براحتي وجعلت أرامق غيبة السفينة في لجة البحر وقد طوتها الأمواه طي السر في الفؤاد.

"لا أدري إذن.." رددتها غير مصدق وقد اعتلج صدري هما, ثم دخلت إلى قمرتي واستسلمت لنوم عميق.

عندما أفقت هالني الصمت الذي بدا غير أليف. نظرت من نافذة قمرتي المستديرة فرأيت إلى الموج الخفيف وهو يأخذ من الغروب ألوانه, والى السماء وهي ترحل شيئا فشيئا إلى العتمة, والى النجوم وهي تنسج نورها من ذلك الصمت الذي بدأ يسكن تلك الفسحة الموحشة في أعماقي.

خرجت إلى ظهر السفينة لأشهد الغروب البديع. كنت وحدي على ظهرها. كان الغروب ممتعا للغاية, وكانت اللحظات التي راقبته فيها من أكثر اللحظات إجلالا في نفسي. لقد انطبع أفول الشمس في نفسي وما أحسب أنني سأنساه.. ولكن..

ولكن حقا أين المسافرين! أين عمال السفينة! أنا لم ألق أحدا منهم منذ صعدت السفينة! كيف لم أنتبه إلى ذلك؟ ثم إن أسرتي كانت الوحيدة على المرفأ. لم يكن هناك مودعون غيرها.. فلتت من فمي ابتسامة راجفة غير مصدقة. غير معقول! سيظهرون بعد قليل إذ لا يعقل أن أكون المسافر الوحيد على ظهر هذه السفينة العظيمة.

 هو ذا الليل يقدم نفسه على نحو غير جذاب. جلست على كرسي وأسلمت نفسي لخواطر التأمل. كنت عاجزا عن منع تسرب الخوف الى كياني, مع هذا استطعت أن الفظها مرتجفة: "لا تضعف." ولكن..

ولكن فجأة داهمني خوف كالسيل العرم, فانتفضت واقفا وصرخت:

"ألا يوجد أحد هنا؟"

ربما هكذا يدهمنا الرعب عندما نشعر أننا بعيدين.. ثمة في عمق الوحشة, فصرخت من جديد:

"هل من أحد هنا؟ أيها القبطان؟"

السفينة تسير كالقدر في غياهب البحر والظلومات. ركضت على سطحها كأرنب خائف وأنا أصرخ:

"يا ناس؟ يا قبطان؟

لا صوت.. حتى الصمت كان منقطع الأنفاس. فتشت السفينة برمتها.. مكان.. مكان.. الطابق السفلي, المطعم, فتحت الغرف واحدة تلو أخرى, ثم أخيرا غرفة القيادة التي لم أجد فيها أثرا لمخلوق.

 يا الهي ما أفظع تلك اللحظة التي تبين لي فيها أنني وحيد تماما على ظهر هذه السفينة العظيمة المبحرة في ظلمة المحيط.. التي..

رباه! التي تعطلت لتوها وتوقفت عن المسير, وانطفأت أنوارها!

حينها, وحيدا مع الرعب والوحشة, رفعت رأسي إلى السماء, إلى ملجأي الأخير, فهالني أن النجوم هي الأخرى كانت منطفئة, فهمست بصوت راجف: "لا تضعف.."