كانت هنا
سهام عبد الرزاق
انبلج نور الفجر على صوتها الهادئ وهي تناديني: زينب...زينب ناوليني كأس الماء يا ابنتي.
اندفعت نحو المطبخ وأحضرت كوب الماء الذي طلبت. كان السعال يزداد ، لكنه هدأ سرعان ما تناولت الماء.
- الحمد لله عودي إلى فراشك الآن فقد هدأ السعال، ما كان عليا أن أوقظك ؛ لكنني ما عدت قادرة على النهوض .أصبحت عبئا ثقيلا، فبدل أن أعينك أصبحت من يعينني.
- أرجوك أماه لا تقولي هذا الكلام، ثم إنك تستحقين كل ما أقوم به؛ ألست من تعبت و سهرت لتوفر لي الراحة...ألست من فرحت لنجاحي وبكت لآلامي . إن كل ما أقدمه لكي لا يسدد دينا لكي عليا.
- ليس عليك أي دين، ما أرجوه منك فقط هو أن تصغي لكلامي : زينب يا ابنتي هذه الحياة تضمنا جميعا، تؤوينا تحت جناحيها ، لكنها لا تبقينا طويلا؛ ليس هذا بمحض إرادتها؛ إنه تقدير من خالقها وخالقنا.
- أماه أرجوك لا داعي لهذا الكلام، ثم...
- لا تقاطعيني، إن الذي وهبني الحياة وهبها غيري، ومن قدر لي هذه الحياة قدرها كذلك لغيري...كوني عاقلة يا ابنتي ولا تظلمي أباك.
كانت تلك الكلمات غامضة جدا كأنها لغز من ألغاز الحكايات القديمة...كأنها طلاسم تحتاج إلى من يفكها ويفهمني إياها...لم أفهمها ولم أدرك معناها إلا بعدما غادرت هذه الحياة، غادرتها وأنت تحملين قلبا كبيرا كما حملت طوال هذه المدة الأخيرة التي قاربت العامين جرحا خبيثا...ذلك الجرح اللعين.
لما لم يخبرني أحد بما كانت تحمله أضلاعك من ورم خبيث أخذ يقتات من رئتيك حتى أحالهما عدما وحين لم يجد ما يقتات اقتات عمرك.
لما لم يخبرني أحد بأن مرضك لا علاج له لأملي عيناي منك وأخزن جواي بدل العامين عمرا؛ فأحيل كل دقيقة ساعة، وكل يوم سنة، وكل سنة عمر، وكل نظرة من نظراتك رسما أنقشه بقلبي حتى تسكنيني فتصبحين أنا وأصبح أنت.
لما لم يخبرني أحد لأفهم كل نظرة كنت تحيطينني بها...لأفهم سر عينيك اللتان جالتا المنزل وزواياه...سر كلماتك التي أخبرتني قصته وحكاياه...سر الدمعة التي ذرفتها يوم أن قبلتني قبل رحيلك بساعات.
لما لم يخبرني أحد...لكن ماذا كنت سأفعل لو أخبروني ؟ أكنت سأمنع الموت عنك ...أم كنت سأدعوه ليأخذني إليك ؟؟...أم كنت سأسألك عن سر الكلمات التي قلتها: إن الذي وهبني الحياة وهبها غيري، ومن قدر لي هذه الحياة قدرها كذلك لغيري...كوني عاقلة يا ابنتي ولا تظلمي أباك.
لن أظلمه أماه...لن أظلمه، لن أقف أمامه لأقول له أنك كنت هنا؛ فهو يعرف هذا جيدا ويشعر به ويعيشه في كل خطوة يخطوها في هذا المنزل.
إنه يراك حين يدخل ردهة البيت؛ فقد كنت دائما في استقباله...إنه يراك تنتقلين بين غرف البيت وتنظمين أوراق مكتبه؛ فقد كنت حياة هذا البيت وحياته...إنه يراك...ويراك ...ويراك ...ويراك، فقد عرفك ورآك قبل أن أعرفك وأراك... أأقول له إنك كنت هنا؟ وهو يحس هذا، لكن ماذا بيده ليفعله. إن الحياة لها سنن، كما أن لها متطلبات تجعلنا جميعا نتكيف معها ونعيشها لتستمر الحياة، وتنقضي السنوات تلو السنوات، وتطل دائما الذكريات لتقول: أماه كنت هنا. ولا تزال قلوبنا تنبض على إيقاع ذكراك فتردد: لا تزالين هنا، وستظلين هنا.