الهاجس والأثر
جمال المعاند -إسبانيا
- صوت يتردد بين جنبات نفسه يعلو تارة ويخبو أخرى ، أخذ يحس به بعدما اختار الغربــة وفـارق عشه ، وعصي على الإنسان مخالفة مألوفه، وبالأخص إن كان هذا الإلف يحظى بقناعة عقلية .
صاحبنا شاب في العقد الرابع من العمر ، تكونت ثقافته، وتبعاً لها سلوكه، مما ينشأ عليه مسلم نبت نباتاً حسناً ، فخلال مرحلة الصبا وبداية الشباب، ما استطاعت زخارف العلمانية وألوانها الفاقعة وما تملكه من وسائل تضليل أن تغريه لحظة من الزمن .
غير أن الظروف.. وآه ٍ .. من الظروف ، تعمد للثابت فتحاول جاهدة اقتلاعه ، وهي حكمة ربانية يميز الله بها الخبيث من الطيب ، ولكن يأبى لطف الله بالمنيبين إلا التدارك .
في بلدة صغيرة ووادعة ترعرع صاحبنا وأتم دراسته ، ومنها انطلق إلى سوق العمل .
ومما يستهوي المرء النظرُ إلى لداته وتقليدهم ، فغالب أبناء بلدته يمم وجهه شطر فرنسة. بعضهم عاد في إجازة يمتطي سيارة فارهة، وينفق المال كيفما شاء .
حزم أمره على السفر. وبعد جهود مضنية وطئ فرنسة ، قضى عامين متتابعين يعمل خفية، لعدم حصوله على أوراق رسمية ، وكان ما يحصّله يقسمه شطرين: شطراً لمساعدة أسرته ، والآخر يوفره مصاريف للحصول علـى إذن الإقامـة. وبمعرفة أحد أصدقائه المقيمين تعرف إلى صاحب محل فرنسي في السوق، رضي بأن يعطيه عقداً على شرط أن يعمل لديه!.
وهكذا تم الأمر ، ومنذ أول يوم عمل رسمي فوجئ أن المحل يبيع الخمور والخنزير ... ...
والتبس الأمر في ذهنه بين ما يعتقد حرمته من مس هذه النجاسات- حسب رأيه - وبين أداء الصلاة ، وكذلك قضاء النهار كاملاً مع كافر ، قرر أولاً تأجيل الصلوات حتى انتهاء العمل والعودة إلى المنزل والاستحمام ، ومن ثم أداء بعضها قضاءً .
وانبرى قرينه بالوسوسة ، فأخذ يتكاسل أياماً ويعود أخرى ، وقرر ذلك الشيطان أن فتنته لا يمكن أن تكتمل إلا بتدخل شيطان إنسي ، فعمد إلى رفاقه يلقي على ألسنتهم زخرف القول تلبيساً. لم تكن محاولات بسيطة لثنيه عن المحافظة على الصلاة ، حتى أباح بمكنون نفسه لأحدهم فأخبره أن سعة عفو الله أكبر مما يتصور ، وأن العمل عبادة أيضاً ، وقاسمه الإيمان بأن العمل عبادة ، كما ينص الحديث النبوي الشريف .
قبلت نفسه فكرة أن العمل عبادة، فكانت مسوغاً كافياً ليترك الصلاة رويداً رويداً ، لكن روحه تتعطش للصلاة، وهذا ما يسبب له قلقاً مصدره أعماق قلبه، بين الفينة والأخرى .
هذا الحديث النفسي أوالهاجس ، يتجلى بوضوح في خلواته ، فأحياناً يعمد إلى عد ما فاته من صلوات ، وأخرى يقتنع أنه يجاهد بالعمل لإعالة أسرته فهو بين تجاذب لا يُحسم، لطرف على حساب آخر.
في النهار انشغاله بالبيع ينسيه محنته النفسية ، أما الليل فظرف ثقيل لتقليب الأوجاع ، فزين له شيطانه الذهاب لمقهى يجتمع فيه أبناء بلده ليلاً يتسامرون ، وهكذا درج على تزجية ليله .
وفي ليلة شتوية قر كان المطر ينهمر بغزارة ، خرج من باب العمارة، فمشى أمتاراً ثم عاد خطوات القهقرى خوفاً من البرد ، لكن شيطانه زين له المقهى ، فتراجع ومضى ، وهو يتأمل الريح التي تدخل كل منفذ، وتجبره على الصدح بمرورها بأصوات نشاز لا يجمعها إنسجام ، وينفرد الرعد بصوته ، وحلكة الظلام ترسم لوحة قدرية تبرهن على عجز الإنسان، حتى لو عاش في أرقى دول العالم أمام عظمة خلق المولى سبحانه ، فتجدد صوت الأعماق في نفسه ، فما شعر إلا وهو يدخل المقهى .
ارتشف من كوب القهوة الذي أمامه جرعات ليدب الدفء في أوصاله ، وأصاخ بسمعه لحديث أصحابه ليهرب من صراعه النفسي ، لكنه كلام مج سماعه، لا يتعدى يوميات العمل وأخباراً غير موثقة عن البلد ... همّ بالخروج
لولا حديث أحدهم عن وافد جديد انضم لمجتمعهم الصغير ، خبر فيه نوع من الجدة ، كان ناقل الخبر الوحيد بين جلسائه من رأى وسمع ذلكم الوافد ، وأخذ بذكر مناقبه. والعادة أن أي نبأ لا يخلو من تعليق ، إلا هذا المقطع فقد مرّ مرور الكرام . ومفاده يشي أن ثمة تغيراً سيحدث ، نظراً لتمكن الغريب من أمور لا عهد لهم بها .
عملُ صاحبنا في السوق يمكّنه من سماع كل جديد من كثرة المتسوقين ، فالناس في الغربة يعانون من رتابة قاتلة ، فيتناقلون أي خبر ، وبدأت أخبار الوافد تصل إليه تترى ، فمن قائل: إنه جامعي ، والجامعيون قلة ، وآخر: إنه مشرقي، والسواد الأعظم للمقيمين من المسلمين هم من بلدان المغرب العربي ، لكن هذه المعلومات لم تثر فضول صاحبنا ، حتى زاره صديق للتسوق، كان زميله في الجامعة، وهو ملتزم ويثق به إلى حد كبير. ومما دار بينهما من حديث كانت قصة الوافد، فأخبره صديقه أنه مكتبة متنقلة ، وعلق صاحبنا بقوله: إننا معشر الشرقيين لا ننفك عن المبالغة في إشارة لحديث زميله عن الوافد وثقافته ووصفه إياه بالمكتبة ، فانبرى صديقه يبرهن له عـلى سعة اطلاع الوافد وتمكنه!!.
تعجب صاحبنا من مقدرة ذلكم الوافد على أسر قلوب العوام والمثقفين ، ومضت فترة تجاوزت الأسبوعين، وكلام المتسوقين ورواد المقهى لا تخرج عن التغني بمواصفات الوافد ، ونقل أجزاء من كلامه .
وفي مساء إحدى جلساته مع أصاحبه في المقهى هب الجميع وقوفاً ، راعه أمرٌ ماحصل من قبل قط ، فسأل مَن حوله: ما الأمر؟! فقالوا : الأستاذ يدخل المقهى! إنه الوافد الجديد ، ولأن طاولة صاحبنا هي الأقرب ومعظم جلسائها رحبوا به، جلس إليهم .
فرصة لصاحبنا ليسبر ما قيل عنه بنفسه ، نظر نظرة شاملة على ملامحه، إنه رجل في العقد الخامس من العمر، ودارت المجاملات بين الجميع ، والوافد تعلو ثغره ابتسامة ، وأمطره الحاضرون بسيل من الأسئلة الشرعية والثقافية، ويأتيه الرجل من طاولة أخرى ليسأله وهو يجيب بكل ثقة ، وبالدليل القرآني والنبوي وأقوال العلماء، فلا يترك لشيطان سأله ثغرة ينفذ منها. أعجب صاحبنا به، وأدلى بدلوه في مناقشات وأسئلة عامة ، وتحدث مدة خمس دقائق متصلة، لم يقاطعه الوافد، بل تركه يسرح بخياله بين منعطفات الذاكرة ، ينتقي ما شاء، وعندما سكت أثنى على ثقافته واطلاعه ، وأخبره أنه لم يره في المركز الإسلامي طوال الأسبوعين اللذين قضاهما ، فأجابه: إنها المشاغل ، خمن ذلكم الداعية أن صاحبنا إما إنه لا يصلي ، أو لا يدخل المركز، شأن كثيرين من المسلمين المقيمين في الغرب ، فاختار الأحسن ظناً، ووجه كلامه للجميع حول فوائد صلاة الجماعة وأثرها الإيماني، لمن يعيش بين ظهراني المشركين ، قاطعه أحد الحضور ليكشف ستر صاحبنا أنه لا يصلي أصلاً .
أظهر الداعية كل علامات الدهشة والاستغراب ، موضحاً أنه لا يكاد يصدق أن مسلماً بهذا المستوى الثقافي لا يتذكر أن أول عمل نسأل عنه يوم القيامة الصلاة فإن صلحت صلح سائر العمل ، وساق الحديث النبوي الشريف
الدال على ذلك ، ومما استشهد به قول الإمام العلامة المربي ابن القيم "" ما عُصي الله إلا بجهل"" .
تدخل أحد الحضور بقوله : أن الإنسان المسلم يضطر أحياناً للاختيار في الغربة بين أمرين ، هما الصلاة والعمل .
قال الداعية : أفي علم الله شك ؟ وهو الذي أحاط بعلمه مخلوقاته قبل الخلق وبعده ، فلم يرخص في شرعه لترك الصلاة بحال من الأحوال ، وأسهب في هيئات صلاة المضطر والخائف .
أجاب صاحبنا أن العمل يعيق أداء أي هيئة ، وختم تعليقه بأن العمل والمحافظة عليه نوع من العبادة واستشهد بحديث "العمل عبادة" .
أدرك الداعية مكمن التلبيس عليهم ، فقال :
أولاً حديث العمل عبادة موضوع وليس بصحيح ، ونص فقهائنا أن أي عمل تجري عليه أحكام الإسلام الخمسة ، وشرح معنى الأحكام الخمسة ، وساق الأمثلة التالية :
عمل واجب مثل أداء الصلاة .... وعمل مستحب مثل النوافل كلها ، ومثل التكسب المعاشي وماشابهه ما لم يقترن بما يجعله واجباً، أو يجعله محظوراً، وعمل مكروه كمن يشرب واقفاً أو يسمر بعد العشاء بلا حاجة ، وعمل حرام كالسرقة ... وأعمال كثيرة يكون حكمها الإباحة ما لم تقترن بما يخرجها عن الإباحة إلى حكم آخر.
استرق الصمت أعنّة الألسن ، فما نبست ببنت شفة ، فاستوى الداعية قائماً مستأذناً بالانصراف. لقد أحدث زلزلة في عقول مستمعيه، كفيلة لو تركت تختمر، بأن تجتث الأوهام الضارة. وانفض المجلس .
عاد صاحبنا إلى شقته، وعلى مسافة الطريق كان يسترجع ماقاله الداعية ، لقد أسقط متكئاً لديه ، وقضية الأحكام الخمسة ! ، لكنه تذكر أن الأستاذ لم يعرض لقضيتيين: هما مسألة لمس النجاسات، وقضـاء اليـوم بطوله مـع كافر . منـّتْهُ نفسه: لعل ثمة ثغرة !.
في اليوم التالي، منذ أن بدأت الأرجل تدب في السوق، وهو يسأل عن رقم هاتف الداعية ، وحصل عليه ، فهاتفه طالباً جلسة منفردة بعد العشاء في مقهى بعيد، حتى يضمن عدم المقاطعة. لبى الداعية دعوته ، وعندما جلس إليه أفضى بكل ماعنده ، والداعية يستمع باهتمام ، فلما انتهى من كلامه أجابه الداعية بقوله :
أجمع علماؤنا من أهل السنة والجماعة أن فعل المعاصي، كترك الفرائض، كلاهما حرام.
و الخمر والخنزير من المحرمات القطعية في الإسلام بنصوص الكتاب والسنة والإجماع ، وما يتقاضاه الإنسان من أجر فهو حرام أيضاً لأن من يعمل بها مشارك لشاربيها وآكليها ، وما حَرُم أكله أو شربه حَرُم ثمنه أيضاً ، واستثنى العلماءُ المضطر . وعلى المسلم البحث فوراً عن عمل بديل. وختم كلامه بقوله تعالى ( ....ومن يتق الله يجعل له مخرجاً) – الطلاق2- . أما اللمس بحد ذاته فأمره يسير، إذ تزول النجاسات بالغسل، بل قد توجد خلافات حول دلالة تلك النجاسات: هل هي نجاسات حقيقية أم نجاسات معنوية ، وعليه الالتزام فوراً بالصلاة حتى لو صلى في مخزن المحل الذي فيه خمور ولحم خنزير إن لم يجد محلاً أطهر، والعمل مع كافر لم يرد نص بمنعه .
هنا انفرجت أسارير صاحبنا وبدا البشر على وجهه وقال:
جزاك الله عني خيراً ، من الغد ستجدني في الصف الأول بين المصلين بإذن الله.