لكل أجل كتاب
م. محمد حسن فقيه
انحرف بنا السائق نحو اليمين مبتعدا عن سيارة شحن عسكرية هوجاء ، كانت تسير مسرعة باتجاهنا ، كاد سائقها السكران أن يقذف بنا في الهواء .
انحرفت سيارتنا عن الطريق ، ضغط السائق على المكابح بقوة ، إلا أن طاولة البائع المتجول لم تنج من سيارتنا ، إذ أصابت السيارة طرفها فانقلبت على رأسها وانتثرت فواكه المسكين تتدحرج على الرصيف بين أرجل المارة ، وتحت عجلات السيارات المسرعة ، كسبحة انقطع خيطها ، وانفرطت حباتها ، بينما انقلبت الميزان على الأرض ، وطارت كفتاها في الهواء ، لتسقط فوق محظوظ من المارة وتصفع رأسه ، في حين هرب البائع بعيدا ، إذ أحس بالخطر قبل أن يدنو منه ، فلقد كان صوت شاحنة ابن الحكومة السكران ، وأصوات مكابح سيارتنا منبها بل مزعجا ومرعبا لكل من حولنا .
استأسد البائع المتجول واستنسر بعد أن توقفت السيارة وسكن محركها عن الدوران ، وهو يرى رأسمال يومه يتدحرج بين الأرجل وتحت العجلات ، فاندفع نحوالسائق بسرعة كالمجنون وهو يصرخ في وجهه بحدة ، وبدأت المشادة والجدال بين السائق والبائع ، فبين اتهام من البائع ورد من السائق عليه .
- ليس الحق على أمثالك من أصحاب السيارات ، بل الحق على الحكومة التي أعطت أمثالك رخص قيادة للسيارات .
- يا عمي ليس الحق علي .... الحق على الشاحنة العسكرية وسائقها السكران ، لقد كادت أن تطوح بسيارتي وتقذف بها فوق رؤوسكم ، لكن الله سلّم .
- أجاب البائع وهو ينظر إلى غلة النهار ، وقد التصقت بإسفلت الطريق : سلّم الله على ماذا ؟ ! على البضاعة التي سحقت تحت الأرجل وبين العجلات .
- اتق الله يا رجل ، قدر الله وما شاء فعل ، إحمد الله على سلامتك .
تدخلت لأدلو بشهادتي وأنصف السائق : ليس الحق على السائق ، لقد أنقذنا جميعا من موت محقق من خطر الشاحنة العسكرية وسائقها الأهوج إ .
أجاب البائع : لا يهمني كل هذا ، هذا السائق الذي صدم عربتي ونثر بضاعتي ولا آعرف حقي إلا منه ، وليذهب إلى إبن الحكومة ويشتكي عليه ويسترد حقه منه ، إن كان ابن الحكومة هو السبب كما يدعي .
تأخرت عن الموعد مع زميلي سعيد الذي ينتظرني في المرآب لنسافر معا إلى البلدة ، ولم أعد أحتمل التأخير أكثر من ذلك ، فنقدت السائق الأجرة وهو على تلك الحال ، ومضيت مسرعا لألحق بموعدي .
لقد أصبح مرآب السيارات قريبا مني ولا يحتاج إلا لعبور الشارع المزدحم عرضا ، وبضعة دقائق إلى الأمام ، أسرعت الخطا فخفت حركتي واتسعت خطوتي ، حتى رحت أقفز قفزا من خلال الحشود المزدحمة ومن أمام السيارات الرعناء ، لا ألقي بالا إلى سرعتها الجنونية ولا أنظر ما حولي ، بل تعلّق بصري بحافلة بلدتي التي خرجت من باب المرآب ، وقد بدا لي الركاب في داخلها ، وهم يملأون كل شبر داخلهاا بعد أن ملئت جميع مقاعدها .
لوّح لي سعيد من النافذة وهو يناديني ويدعوني للإسراع ، أسرعت الخطا أكثر لعلني ألحق بالحافلة فأتعلق بالباب وأندس بين الكتل البشرية المتراصة المحشورة داخلها ، فالمسافة قصيرة وأنا في شرخ الشباب ، لكنه كان مجرد تفكير ، مرقت الحافلة من أمامي تشق طريقها بأطيطها المرعب ، لا تلقي إليّ بالا ، ولا يلتفت أحد منها إلى ذلك الملهوف المستعجل وصراخه الحاد .
ألقيت بحقائبي - التي أنهكت جسدي وأنا أجري بها تلك المسافة القصيرة المتعبة تحت قيظ الشمس - إلى حذاء الجدار ، مسحت حبات العرق البارد من جبيني بباطن كفي ، تنفست الصعداء ، أطلقت آهة عميقة من داخلي ، ثم ألقيت بنفسي متأففا إلى ظل الجدار ، انتظر قدوم الحافلة الجديدة ، وصدري يكاد أن ينفجر ضيقا ، وأنا أندب حظي التعيس .
هاهي ذي الحافلة الجديدة تحتل مكان سابقتها ، حملت حقيبتي ببرود ، ألقيت بها إلى الحمّال فقذف بها إلى السطح ، ولجت إلى داخل الحافلة ، اخترت مقعدا منفردا جانب النافذة ، فتحت الزجاج وأسندت مرفقي إليها ، وسرح خيالي في تأمل الناس ومراقبتها من خلف النافذة .
كان الناس بين ملهوف مستعجل مثلما كنت عليه من دقائق ، وبين هاديء بارد الأعصاب كحالي الآن ، وبين بين .
الوجوه : ضاحكة ، عابسة ، باسمة ، متفائلة ، متشائمة ، قانطة ، بائسة ، مكفهرة ، ملغوزة .
الناس : مسرعة ، مبطئة ، منهمكة ، واقفة ، جالسة ، متكئة ، متسكعة ، مفترشة الأرض .
الأشكال والأزياء : طالب بلباس متواضع ، بنت "مودرن" ، زي عالم بعمامة وجبة ، شعر نسائي على رأس رجل ، قميص شبابي عل جسم مراهقة ، فلاح ، "أرتيست " ، متكبر بحقيبة دبلوماسبة ويشمخ بأنفه عاليا ، سيدة بمكياج فاضح ونظارة عاكسة سوداء، عامل بثياب رثة مهلهلة ......
قطع شرودي صوت الحمّال وهو يهدد ويوعد أحد الركاب بأنه سيأخذ الأجرة ولو لم يرفع الحقيبة إلى سطح الحافلة .
صعد اثنان من الباعة المتجولين إلى الحافلة وبدأوا بتمثيليتهم المحبوكة في المزايدة العلنية مع تبادل السباب والشتائم .
تدافع بائعي الماء البارد من الأطفال الصغار ، حفن أحدهم حفنة من التراب وألقى بها في وعاء الآخر حسدا وغيظا ، غضب الآخر واحمرت عيناه ، ثم هجم على المعتدي ليرشه بماء وعائه المحمر بالتراب ويغرق له ثيابه ، ثم يتلو ذلك برفسة للوعاء ، فتدفقت غلة النهار ، وسالت على الأرض تحت أرجل المارة المستهلكين .
دوى بكاء طفل صغير داخل السيارة ، التفت نحوه وهو يشير إلى أمه من خلال النافذة نحو ابن شارع وهو يجري بعيدا وبيده الكعكة .
مللت مراقبة الناس وتأمل حركاتها وأزياءها وأوضاعها ، وانهماكها في أعمالها ، وإقبالها على الدنيا والتكالب عليها ، ومشاكل الصغار ، ومسرحية الكبار ، وشريعة الغاب .
أغمضت عيني لأرتاح قليلا من تلك المشاهد التي لا تنتهي حتى تبدأ من جديد ، ما لبثت أن فتحت عيني بعد قليل مستيقظا على هدير الحافلة ، وقد زرعت بالبشر على كل مقعد وفي كل شبر كسابقتها ، هدر محركها ثم انطلقت بنا تشق طريقها من خلال الزحام وهي تنافس بهديرها وأطيطها كل أصوات السيارات وأسباب الضجة التي تلتف من حولنا ، لقد كانت النافذة المفتوحة بجانبي ، والهواء الذي يصفع وجهي بشدة يخفف كثيرا من رائحة النفط المحروق ، المتسرب من أرض الحافلة المخروقة .
إصبر قليلا يا فتى ! دقائق وتشرف على البلدة حيث الهواء العليل الرطب يدغدغ أنفاسك عما قريب .
فجأة سادت السيارة همهمة وغمغمة ، التفت حولي لأفحص عيون الواقفين وأقرأ ما فيها ، إذ من المحال أن أرى ما أمامي بسبب الكتل البشرية المتراصة .
كانت الأبصار شاخصة مشدودة معلقة إلى شيء أمامنا ، انطلقت أصوات ودعوات من الداخل ..... يا لطيف ..... يا ستير .
هدأ محرك السيارة ، توقفت على يمين الرصيف ، إزداد تسارع الناس وتزاحمهم ، كانت الوجوه صفراء شاحبة كأن الموت قد خيّم عليها ، والأنظار مشدوهة ومشدودة معلقة إلى يمين الطريق .
فهنا أم قد أخفت وجهها خلف برقعها وهي تضم وليدها إلى صدرها بعنف ، وهناك أخرى قد أشاحت بوجهها جانبا والأسى والتأثر الشديد باد على محياها ، وذاك ضرب بيده على جبهته وهو يتمتم : يا لطيف .
رفعت نفسي محاولا النهوض من مقعدي بغير وعي ، وصرخت بحدة ماذا حدث ؟ فكأنما هي همسة في بئر ، خلّصت رأسي من الأيدي المتشابكة والمتزاحمة فوقه ، انسبت من بين الحشود التي أغلقت الممر ، ثم ترجلت الحافلة مع من ترجّل لأستطلع الخبر .
فجأة انتصب أمامي كل شيء ، جمدت في مكاني كالصنم ، انتصب شعر رأسي ، ارتعدت فرائصي ، انتفض جسدي دفعة واحدة كالمذعور ، ووقفت أرقب الحادث بكل جوارحي .
الحافلة التي جريت خلفها وندبت حظي التعيس لأني لم ألحق بها ، ولم أتمكن من مرافقة زميلي سعيد فيها ، تستريح متمددة ، متكئة علي يمين الطريق وقد خففت منها وعن جسمها الكثير ، فطارت بعض العجلات وأجزاء من المقدمة وتكسرت العيون ، وأفرغت الكثيرمن حمولتها - من الحقائب والركاب والكتل البشرية التي كانت محشورة داخلها - ما أفرغت ، أعدادا إلى المستشفيات ستضم دار العجزة والمعوقين قسما منهم ، وقسما آخر ارتقى إلى الدار الأخرة ، وأما صديقي العزيز سعيد ، الذي لوح لي بيده وواعدته لنسافر معا إلى البلدة لا أدري ما مصيره ، وإن كنت لا أراه بين الناجين ، كما أني لا أراه بين الميتين ، ولعله قد نقل إلى المستشفى مع من نقل من الجرحى .
اختلط الدم بالتراب ، انعجن اللحم بالحديد ، تناثرت الأطراف والقطع البشرية مع قطع السيارة المحطمة واختلطت بأمتعة المسافرين المنثورة على الأرض ، والتى كانت مكومة على سطح الحافلة .
ها هي ذي يد السائق تبدو متدلية من النافذة ، لم تنفصل عنه كليا بعد ، وقد أصبح المقود داخل بطنه المبقور .
على الرصيف تجمهر حشد من الناس ومن أصحاب السيارات العابرة ، ومن أبطال هذه المسرحية المروعة ينتظرون الإسعاف والمرور، بعد أن نقل بعض المواطنين الجرحى والمصابين بسياراتهم إلى مستشفى المدينة .
على يمين الحافلة المقلوبة إلى الأمام كانت هناك سيارة صغيرة مستلقية على ظهرها ، وعجلاتها للأعلى كأنها تدعو الله !.
ألقيت نظرة داخل السيارة :هناك أمام المقود بدا السائق متمددا على الأرض وقد غطي بطنه المبقور وأحشاؤه المتناثرة بقطعة من القماش ، وعلى يمينه حيث كان يجلس جانبه زميله رأيت تلك الجمجمة الوردية وقد كشط جلدها كاملا من الخلف ، أما المقعد الخلفي كان هناك اثنان انطحن منهما اللحم بالعظم وانعجن مع حديد السيارة ، انطلق لسان حالي وهو يردد بلا وعي مني : يا لطيف ... يا ستير ..." يا بلاش على الموت " .
انتبهت إلى نفسي عندما التفت بعض المشاهدين ينظر نحوي مستغربا ، أشحت بوجهي جانبا نحو الحافلة ، والأمتعة المتناثرة هنا وهناك .
تلجلجت سلة قش صغيرة داخلها بعض الخرق أو الثياب وقد تكسرت بعد سقوطها من سطح الحافلة ... تحركت من مكانها ، ثم انقلبت وتدحرجت قليلا ، خرج من داخلها أرنب صغير ، نظرمرعوبا جهة الجماهيرالمحتشدة مستغربا ما يراه أمامه ، ما لبث أن أطلق ساقيه وولّى هاربا يسابق الريح ، وهو يقفزمن فوق الأمتعة المتناثرة ، وقطع السيارة ، والقطع البشرية !.