غربة الروح
وفاء خالد
صادفتها في طريقي وأنا أستقل الحافلة أمرأة في الخمسين من عمرها بمظهر مرتب ولطيف وزينة متواضعة ولكن ما جذبني اليها أنها تتكلم مع نفسها بصوت مسموع وتتحرك كثيراً وهي جالسة في مقعدها فتارةً تسحب ياقة قميصها وتارة ترفع يدها وتحرك شعرها من تحت غطاء الرأس وهي تصدر أصوات كثيرة لم أميزها والذي أثار فضولي أنها لا تشعر بي أو ربما هي غير مكترثة لوجودي بالقرب منها تنظر الي ولكنها لا تراني نظراتها شاردة متنقلة بسرعة من مكان الى أخر .. اخذت أنظر اليها كثيراً وأطيل النظر ولكن بدون جدوى حتى توقفت الحافلة ونزلت منها .. فقلت في نفسي ما الذي يجعل أمرأة مثلها تتصرف بهذه الطريقة الغريبة .. هل هي تعاني من مشكلة ما ولكن تحدث للناس الكثير من المشاكل وأنا منهم ولكني لا أتصرف هكذا أذن ربما هي تعاني مرض ما في عقلها.. وفي اليوم التالي رأيتها ولكن بهيئة أخرى فهي متزنة وتجلس جلسة معتدلة دون حراك أو كلام مع نفسها فأستغربت لذلك ورحت أراقبها كل يوم وبعد عدة أيام وجدتها وقد عادت لحالتها الغريبة فحاولت أن أشعرها بوجودي ولكنها منهمكة بالكلام والتحرك والتلفت دون أن تعيرني أي أهتمام فسألت عنها وعرفتأنها موظفة في أحدى الوزارات لم يعرف عنها أحد أنها مصابة بالجنون ولكن ما هذا الشيء الذي يصدر منها هل هو مرض أم هي عادة طبيعية تحدث للبشر من كثرة ما يواجهون من ضغوط ومشاكل حياتية حاولت التقرب اليها والسؤال عن معاناتها فعرفت أنها امُ لولدين كان لها زوجُ هو السند والحب والملجأ لم يكن زوجها رجل عادي .. كان ينبوع من الحنان الذي لا ينضب تعتمد عليه في كل شيء ..
لا تستطيع الذهاب الى أي مكان بدونه كان خيمة على أطفاله معيلاً لهم وحامياً أميناً عليهم لا هم له الا همهم ومنذ أن تزوجته أعتدات على عشرته والعيش معه فأصبحوا واحداً لا يتجزأ يفكرون سوية ويعملون سوية أنجبوا أطفالهم بحب وزرعوا بقلوبهم الحب وكلهم أمل أن يكبروا ويصبحوا شيئاً مهماً في الحياة ليفتخروا بهم تقول سعاد عندما توفت والدتي وبعدها والدي وتزوج الاخوة والاخوات وأصبح كل واحدٍ منهم مشغولاً ببيته وأولاده وجدت حسن بيتي وأهلي وعائلتي لم أقل يوماً آه الا قالها قبلي كنت أشكر ربي كثيراً لأنه وهبني أياه. لكن كان في داخلي خوفاً مستديماً من فقدانه لا أعرف لماذا فطالما فكرت بيني وبين نفسي اذا فقدت حسن ماذا سيحل بي وكيف سأتصرف وأعيش فأنا لا أتصور حياتي بدونه, كان حسن يعمل مدرساً في قرية في أطراف بغداد بذل حياته من أجلها أحب اهلها وأحبوه كان مخلصاً في عمله يحب تلاميذه متفانياً في سبيل تعليمهم ولكن سكن هذه القرية أناس غرباء همهم الوحيد هو أخضاع أهلها والسيطرة عليهم فكان لهم ما أرادوا بسبب ما لديهم من أموال وخدع وأكاذيب وأخذوا يكيدون المكائد لحسن ولكنه صابر محتسب يحاول أن ينبه الخيرين من أهل القرية الى غايات هؤلاء الاشرار ومآربهم وفي يوم من الايام وقع المحظور الذي لم يكن في الحسبان والذي أطار النوم من عيني وأقظى مظجعي وجعلني هائمة ليل نهار حيث قتل حسن برصاص شخص مجهول لم أعرف من هو لحد الان فسقطت خيمتي وماتت بسمتي وما عاد شيء يفرحني أو يسعدني فأنا أتمنى الموت في كل لحظة علّي التقيه هناك ..
اصبحت حياتي هباء لا طعم فيها ولا لون أما أولادي فقد فقدوا الحب والسند وأصبح بيتنا كئيباً مظلماً لم أستطع أن أملأ فراغه فأصبحنا غرباء في بيت واحد كثرت فيه المشاكل والهموم انشغل أولادي بالدراسة والمدرسة أما أنا فأتحمل كل شيء صغيراً كان أم كبير صبري نفذ والطريق طويل لا أستطيع أن أكمله وحدي فأنا أشعر بغربة شديدة حتى أنني لا أستطيع التواصل مع الاخرين.
أنعصر قلبي وأحسست بضيق شديد يكاد يخنقني ويقطع أنفاسي وأخذت أنظر في عيونها الغارقة في الاحزان .. أنعقد لساني ولم أنطق بشيء أو حتى أخفف عنها احزانها فذهبت وتركتني وأنا في ذهول مما سمعت ومرت الايام يوماً بعد آخر ولكني لم أرها منذ ذلك اليوم كنت أنتظرها بفارغ الصبر علي أستطيع ان اكلمها كنت اتمنى أن اتقرب اليها لاخفف عنها همومها ولكن خيبتي تزداد يوماً بعد يوم والساعات تنقضي ولا أمل في مجيئها فقدرت أن أسأل عنها بعض الناس الذين أعتدتُ ان اراهم في نفس المنطقة التي تستقل الحافلة منها ولكني فجعتُ فاجعة كبيرة وأخذت القشعريرة تهزُ بدني والعبرات تخنقني لم أستطع ان احبس دموعي حين سمعتُ خبر موتها لقد ماتت في سكون رهيب وهي تعاني الوحدة في غرفتها وعلى سريرها ولكن الشيئ الوحيد الذي خفف عليّ وطأت ما سمعت هو أنها كانتت يائسة من الحياة تتمنى الموت علها تلتقي بحسن من جديد وتبدأ معه رحلة جديدة في عالم اخر تتعانق فيه الارواح المُحبة لا يعرف الاحقاد والضغائن.