مقامة النِّعم 2

مقامة النِّعم

(الجزء الثاني) 1

شيماء محمد توفيق الحداد *

[email protected]

.... وَذهبتُ إلى ذلكَ القصرِ المنيف، فإذا بهِ مكانٌ موحشٌ مخيف، ففزعتُ منَ الأمرِ وَانتابتني الهموم، وَفكَّرتُ ما عسى يكونُ قدْ حلَّ بصاحبي ذاكَ الأبِ المكلوم، وَطفقتُ أسالُ عنهُ منْ أعرفُ منَ الجيران، فأرشدوني إلى مكانِ إقامتهِ الَّذي كانَ بينَ الوديان.. وَبعدَ جهدٍ جهيدٍ وَتعبٍ شديدٍ وصلتُ إلى ذلكَ الوادي العنيد، الَّذي أبى إلا أنْ أضيعَ فيهِ – رغمَ تعبي – وَأضيِّعَ وقتاً جدّ كبير، وَجهداً ليسَ باليسير، وَأخيراً وَبعدَ طولِ عناء، وَتعبٍ وَاستياء، وجدتُ ذاكَ الصَّديق، يعاني منْ أحلكِ كربٍ وَأشدِّ ضيق، فأقبلتُ عليهِ بلهفةٍ صادقة، أسألهُ عنْ حالهِ الضَّائقة، وَأستفسرُ عمَّا فعلهُ الزَّمانُ بهِ منْ بعدي، فأرسلَ آهةً حزينةً وَما استطاعَ صدِّي، وَقالَ بألمٍ وَانكسار، وَقدْ هطلتْ دموعُهُ كالمطرِ المدرار:

- أتذكرُ لمَّا نكبتُ بأولادي وَتغيَّرتْ حالي؟!.. ها أنذا قدْ رُزِئتُ بقصري وَمالي.. فما أعظمَ شقائي!، وَما أشدَّ بلائي!..

 قلتُ بفضول:

- كيفَ؟..

 قالَ:

- إنَّهُ حديثٌ يطول، لكنَّ الموضوع َ– باختصارٍ – أنَّني كنتُ منْ أكابرِ التُّجَّار، وَكما تعلمُ فقدْ كانتْ بضائعي وَقوافلي تجوبُ البلادَ وَالأمصار، لكنَّني فجأةً صرتُ أخسرُ صفقاتٍ كثيرةً وَقوافلَ بالمالِ وفيرةً، وَما أرسلتُ قافلةً إلا داهمَتْها عصابةٌ شرِّيرة، وَما تعاقدتُ معَ أحدٍ إلا خانني وَفرَّ بِشرِّ جريرة، فانتكسَ حالي، وَخسرْتُ مالي، وَتكالبتْ عليَّ الدِّيون، وَشعرتُ أنَّني أعاني سكراتِ المنون، وَبعتُ قصري، وَمصدر فخري....

 قاطعتهُ:

- اهدأْ وَكفَّ عنْ هذا الهَذَيان؛ فما كانَ القصرُ يوماً مصدرَ فخرٍ لإنسان.. وَإيَّاكَ أنْ تستسلمَ لليأسِ هكذا.. وَهَبْ أنَّكَ عانيتَ الكثيرَ منَ البلاء.. وَعشتَ عيشةً مزريةً كعيشِ الأشقياء.. إنَّ الدُّنيا سجنُ المؤمنِ وَجنَّةُ الكفَّار، أمَّا في الآخرةِ فللمؤمنينَ جنَّاتٌ تجري منْ تحتها الأنهار..

 ثمَّ تعالَ قلْ لي: ما المال؟.. وَما ذهابُهُ يا أبا طلال؟.. انظرْ إلى نفسكَ وَتأمَّل.. ثمَّ استعنْ بربِّكَ وَتوكَّل.. قلْ لي بربِّكَ ما قيمةُ المالِ مع جسمٍ مريضٍ سقيم؟، بماذا يبهجُ القصرُ إنْ كانَ صاحبُهُ فيهِ منَ الأمراضِ ما اللهُ بهِ عليم؟.. احمدْ ربَّكَ على نعمةِ الجسدِ الصَّحيح، وَلا تكنْ بشكرهِ كالبخيلِ الشَّحيح.. انظرْ إلى منِ ابْتُلِيَ بالأسقام.. ألا يتمنَّى أنْ يفقدَ مالَهُ وَيعودَ صحيحاً وَيشعرَ في صدرهِ ببردِ الرَّاحةِ وَالسَّلام؟.. سلْ فقيراً أنْ تأخذَ عينيهِ وَتعطيَهُ مكانهما جوهرتينِ هلْ يوافق؟.. سلْ منْ يتملَّقكَ لمالكَ أنْ تكسرَ يدَهُ وَتعطيَهُ عطيةً هلْ يتملَّقُ وَينافق؟.. ألا فاسمعْ يا أبا طلال؛ إنَّ الصِّحَّةَ ثمينةٌ وَلا تُشتَرى بمال.. وَلو لقيتَ في سبيلها الأهوال.. فاحمدْ ربَّكَ خالقَ هذهِ الوديانِ وَالتِّلال.. وَعدْ إلى رشدكَ قبلَ فواتِ الأوان.. وَابقَ – كما عهدتكَ – قويَّ الإيمان.. قبلَ أنْ يغلبكَ الشَّيطان..

 قالَ أبو طلال:

- أشكركَ أيُّها الخلُّ الوفي، وَالصَّاحبُ الصَّفي.. لقدْ أعدتَّ إلى روحيَ الاطمئنانَ، بعدَ أنْ كنتُ تائهاً حيرانَ.. فشكراً لكَ ثانية، وَالحمدُ للهِ تعالى على نعمةِ العافية..

 قالَ هشامٌ:

- وَمرَّتْ شهورٌ أخرى وَأنا أتفقَّدُ صاحبي ما سمحَ وقتي بذلك، ثمَّ شُغِلتُ عنهُ ببعضِ المشاغلِ فانقطعتُ عنْ زيارتهِ لذلك.. وَعزمتُ على رؤيتهِ فورَ تفرُّغي مهما كان، وَلمَّا تفرَّغتُ ذهبتُ إليهِ وَهكذا كان.. دخلتُ عليهِ تلكَ الحُجَيرةَ الصَّغيرةَ الَّتي سكنها بعدَ قصرهِ المنيف، لكنَّني لمَّا دخلتها شعرتُ أنَّ فيها شبحَ الموتِ المخيف.. نظرتُ إلى صاحبي وَما معهُ منْ أحدٍ يرعاهُ سوى خادمٍ صغير.. اقتربتُ منهُ وَسألتُهُ عنْ سيِّدهِ، فانتبهَ صاحبي وَالتفتَ بطرفهِ الكسير..

 وَقالَ الخادمُ بحزنٍ كبير:

- لقدْ أصابَ الشَّللَ سيِّدي، وَلمْ يعدْ يتحرَّكُ إلا بمساعدةِ يدي.. لكنَّهُ يستطيعُ الكلام، وَما هذا بكافٍ لهُ وَقدْ تناوشتْهُ الأسقام..

 فاعتراني منْ كلامِ الخادمِ ما أحزنني وَأتعسني، وَصحتُ بنفسي:

- ويحي ما أنحسني!.. كلَّما أتيتُهُ رأيتُهُ في عذابٍ جديد، وَبلاءٍ فريد!.. لكنْ لا بدَّ منْ إحياءِ الأملِ في نفسِه، عساهُ يتحسَّنُ وَيفيقُ منْ بؤسِه..

 قالَ:

- وَتقدَّمتُ منهُ بحذر، فعلَ منْ يحسُّ بالخطر، وَرأيتُ ما عليهِ منْ أسى وَكدر، فقلتُ لهُ:

- يا أبا طلال.. كيفَ الحال؟..

 قالَ بأسى:

- حالي كما ترى؛ مريضٌ لا يستطيعُ الحراك، وَلا يقدرُ على التَّنقُّلِ منْ هنا إلى هناك..

 قلتُ في ابتسامة عسايَ أبعدُ عنهُ هذا القنوطَ وَأزيلُ عنْ وجههِ تلكَ الجهامة:

- هوِّنْ عليكَ أبا طلال، ما هذا بالَّذي يقال، وَكيفَ تقولهُ وَأنتَ سيِّدُ الرِّجال؟.. لماذا الحزنُ وَالقنوطُ وَاليأس؟.. لماذا وَما زالَ لديكَ بعضُ القوَّةِ وَالبأس؟، انظرْ.. لا تزالُ في نعمةٍ عظيمةٍ وَلو حلَّتْ بكَ صنوفُ البلاء، وَلو نزلتْ عليكَ صواعقُ السَّماء، كيفَ لا وَهيَ نعمةُ الإسـ....... .

 قالَ هشامٌ:

- فقاطعني أبو طلال على الفور، وَقالَ وَقدْ بدتْ على وجههِ علاماتُ النُّفور:

- اصمتْ أرجوكَ يا هشام!، وَلا تذكرْ نعمةَ الإسلام؛ فما منْ نعمةٍ لديَّ ذكرتها إلا امَّحتْ وَزالتْ، وَأخافُ أنْ تذكرَ هذهِ النِّعمةََ فتزولَ كما زالتْ تلكَ النِّعمُ وَغارتْ!..

 قالَ هشامٌ:

- فصمتُّ وَكلِّي عجبٌ منْ أمرِ هذا الصَّديقِ القديم؛ قدِ انتابهُ الهذيانُ وَهوَ مريضٌ سقيم.. وَقلتُ لهُ:

- وَهلْ أخطأتُ حينما ذكَّرتُكَ بعظيمِ فضلِ اللهِ تعالى عليكَ يا سيِّدَ الأذكياء؟!.. ألا دعْ عنكَ هذا الهراء، فكلُّ ما أصابكَ هوَ قدرٌ وَقضاء..

 فقالَ بغضبٍ شديد، وَبجهدٍ جهيد:

- لمْ تخطئْ في تذكيركَ لي!.. لكنَّكَ لمْ تقلْ مرَّةً: ما شاءَ الله، فكابدَ صاحبكَ بلواه!!.. فاحذرْ أنْ تكرِّرها مع غيري؛ فأنا لا أريدُ أنْ يُضَرَّ غيري ضيري، وَقلْ: ما شاءَ اللهَ لا قوَّةَ إلا باللهِ، وَإلا أصبتَ غيرَكَ بعينٍ حاسدةٍ دونَ أنْ تدري!!..

 ثمَّ نظرَ إليَّ وَتنهَّد، وَرفعَ سبَّابتَهُ وَتشهَّد، وَقالَ:

- الحمدُ للهِ أنْ أماتني على الإسلام، وَأنقذَ هذهِ النِّعمةَ منْ لسانكَ يا هشام!!..

 ثمَّ انتقلَ إلى رحمةِ اللهِ الرَّحمن، وَحزنتُ على فراقهِ يا إخوان، لكنَّني تعلَّمتُ أنْ أقولَ: ما شاءَ اللهُ المنَّان، عندَ كلِّ نعمةٍ وَفي كلِّ آن..

 قالَ قيس:

- فضحكَ القوم، وَامتدحوا هذهِ الأحاديثَ المِلاح، ثمَّ هرعوا إلى النَّوم، قبلَ أنْ تدركَهمْ تباشيرُ الصَّباح!!..

انتهى ،،،

              

*عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية

[1] ألَّفتُها في الثَّالثةَ عشرةَ من عمري .