بناء بيت المقدس

د.جعفر الكنج الدندشي

تحقيق: د.جعفر الكنج الدندشي

[email protected]

من المخطوطة رقم 4280 في المكتبة الوطنية في ستراسبورغ

ثم أوحى الله إليه ببناء بيت المقدس، ويرفع قواعده كما رفع إبراهيم قواعد البيت العتيق. فرجع سليمان إلى ملكه وسلطانه، ثم قال: إلهي كيف أبنيه؟

فأوحى الله إليه  أن ابنه على أصل صخرة المعراج.

فجمع سليمان  مردة الشياطين وعفاريت الجان وحكماء الانس واستشارهم. فقالوا: منك الأمر ومنّا الطاعة.

فأمر الشياطين وفرقهم فرقاً فرقاً في قطع الصخور والحجارة والعمد والرخام  والجزع الخالص، وهي حرزة اليماني(1)ففرّقه. ففِرقةٌ تقطعه وفرقة تغوص في البحار لاستخراج الجواهر النفيسة، وفرقة في حفر معادن الذهب والفضة...فلما جمعوا ذلك كله أمر بالبناء على الأساس الذي اسسه داود، عليه السلام. فلما أحكموا البنيان انهار (وردت انهال) كله. فأمر بهدمه عن آخره. وأمر

(1) أيّ ما كان  يستخدم في اليمن من أنواع جذور الجوز لتحصين المدن (أنظر لسان العرب، فعل حرز)

بحفر الأساس حتى بلغ إلى الماء. ثم عقد البناء بعد ذلك على الحجارة المنحوتة بعضها فوق بعض، فجعل الماء يغلب على الأساس فلا ينعقد. فاغتمّ سليمان لذلك وجمع جميع العلماء والحكماء واستشارهم فيه.

فقالوا له: إنما ينبغي أن تأمر الشياطين أن يتخذوا قلالاً من نحاس ورصاص.

فأمرهم بذلك، فملأت القلال بالرصاص والنحاس وكُتِبَ على القلال نقش خاتمه < لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له وأنّ  سليمان رسول الله > لتتماسك تلك القلال في وسط الماء، ويكون أساساً لهذا البيت.

فأمر سليمان بذلك وأمر ببناء ( وردت بني) البنيان، وارتفع الأساس إلى وجه الأرض. ثم شكى الناس إلى سليمان من شدة الأصوات عند قطع الشياطين في الصخور. فجمع سليمان عفاريت الأنس والجنّ والشياطين وعلماء بني إسرائيل، وأخبرهم بذلك.

فقالوا: ما لنا علم بقطع الأحجار من غير صوت ،غير أنّ شيطاناً مارداً، يُقال له صخر الجني، فإنه ربما يكون عنده علم بذلك.

قال الراوي: فجمع سليمان عفاريت الشياطين والجن وأمرهم بحمل صخر الجني إليه.فقالوا: يا نبي الله، إنه قد أعطي قوّة جماعة من الشياطين، ويصعب علينا حمله ولا حيلة لنا عليه إلاّ بأمر واحد، وهو أنه يأتي كل شهر إلى عين ماء فيشربها وينزفها نزفاً. والراي أن تنزف ذلك الماء منها  وتملأها خمراً. حتى إذا جاء ولم يجد الماء، فيشرب ذلك الخمر الذي يجده فيها، فيسكر به وتذهب قوته، فنأخذه ونحمله إليك.

فأمرهم سليمان بذلك، وخرجوا من عند مختفين بالأسحار حتى وصلوا إلى العين، ففعلوا ذلك وانصرفوا. واختفوا في قفار تلك الجزيرة  في ظل أشجارها حتى عطش صخر الجني، فجاء إلى العين، فاشتمّ منها رائحة الخمر، فصاح صيحةن ثم قال: هيهات أيتها الخمرة، إنكِ لطيبة، غير أنك لتسلبين( العقل) وتجعلين الحكيم جاهلاً، وأمرك كله ندامة. وانصرف ولم يشرب, ثم عاد في اليوم الثالث وقد أجهده العطش، فجعل يقول: ما من قضاءٍ يأتي من الله إلاّ يكون مبرماً. ثم نزل على العين  ولم يزل يشرب من تلك الخمرة حتى نزفها، ثم قام ليخرج فسقط موضعه، فبادرت أليه العفاريت من كلِّ جانب، ومعهم طابع سليمان ، عليه السلام، فلمّا رآه ذلَّ وخضع، فحملوه حتى أوقفوه على (باب) سليمان وهو يخرج من فيه لهب النار. فلما عاين الخاتم ذهبت قوته وخرَّ على وحهه ساجداً، ثم قال: يانبي الله، ما أعطم سلطانك وسيزول عنك وما يبقى إلاّ ذكر الله وذكره.

فقال: صدقت، ولكن ياصخر حدثني ما الذي رأيت في طريق مجيئك ؟

فقال: يا نبي الله  إني مررت برجل قد شدّ بغلالة بغله على الساحل وهو يتوهم أنه قد استوثق من بغله، ولو نفر  البغل  لكسر العقلة ولم يقدر عليه إلاّ بالتعب الشديد. ولقد مررت بشيخ كبير وهو يشتري خفّاً ويشترط أن لا يبلى ألاّ بعد ثلاث سنين، فتعجّبتُ من غفلته، فكأنه آمنٌ من الموت. ثمّ مررت  برجل عظيم الخلقة ناقص العقل وهو يدّعي علم الغيب، ولا يعلم الغيب إلاّ الله. فتعجّبت منه. ثم مررت على رجل يشم الأرض، فتعجبت منه.

فضحك سليمان، عليه السلام، وتعجّب من علمه.

 ثم قال له: ماالذي أحوجك إلي وانا بالبعد منك ولا أختلط بالآدميين ؟ ولولا قضاء الله لم تقدر علي.

فأخبره سليمان بشكاية الناس من وقع الحديد وصوته.

فقال: يا نبي الله، عندي حيلة، وهو أن تأتي بعش العقاب وبيضه من وكره، فليس شئ من الطيور أبصر ولا أنقى بصراً منه.

فجاءه بعض العفاريت . فأمرهـ(ـم)إلى حمله إلى برية كذا. فحمل العش والبيض  إلى تلك البرية وسليمان حاضر. ثم دعى صخر بجام من القوارير غليظ شديد الصفار فغطى به العش وتركه.فجاء العقاب فلم ير  عشه. فطار في الهواء، فرأى المشرق والمغرب والآجام والآكام، ختى رأى عشه في تلك البرية، فانقضّ عليه، فضرب الجام برجله ليكسره وفي منقاره حجر سامور(؟) فانقض على الجام بحجر السامور فضربه، فانشقّ الجام قطعتين ولم يُسمع له صوت، وأخذ عشه وبيضه وحمله برجله وترك الحجر هناك. فأخذ صخر الجني حجر السامور، وهو في صفاء المرآة في حرّ النار.

قال وهب(ابن منبه)الذي جاء بحجر السامور هو الهدهد، وقال غيره: هو النسر لأنه أحدّ بصراً وأطول عمراً.

فدعا سليمان بالعقاب وقال له: أخبرني من أين حملت حجر السامور؟، وهو جبل شامخ لا يقدر عليه أحد؟

فبعث سليمان بالشياطين والجنّ وأمرهم أن يحملوا منه قدر الحاجة. فمرّوا وجلبوا (وردت وجابو) منه ما قدروا على حمله, وكان يقطع به الأحجار والصخور والجزع والحديد من غي أن يُسمع له حس، وأخذ في بناء بيت المقدس، حتى بنوه قدر قامة الرجل، وبني  بالجزع وأنواع الجواهر، ثم عقد عشرة آلاف عمود من الرخام الملوّن والجزع اليماني المرتفع، و إلى جنب كل عمود سارية من الذهب  وسارية من الفضّة  معقود بعض ذلك إلى بعض على مثال الطبقات. وزخرفت الجن تلك  الأساقف والحيطان إلى حيث تحيرت الأعين فيه.

ثمّ أمر سليمان أن يُبنى بقدر كل شئ يجئ محرابا من ذهب أو فضة، وآخر هذه المحاريب محراباً لنبينا محمد ، صلى الله عليه وسلم. ثمّ أمر بعد ذلك باتخاذ الأبواب مثل المعراج (وردت المعرج) وباب الرحمة وباب التوبة وغير ذلك. وبنى ذلك من الذهب والفضّة، مرصّعة بالجواهر حتى فرغ من بنائه في أربعين يوماً. لأنه كان يبني (فيه) كل يوم ألف شيطان وألف عفريت وألف بنّاء من الأنس.

قال( الراوي):فتمّ في يوم عَرفة. وقرّب سليمان فيه قرباناً عظيماً. ثم أمر باتخاذ ألف وسبعمئة  قنديل من الذهب والفضة. حتى إذا فرغ من ذلك تطهّر وتطيّب وتزيّن بزينة الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، من الصوف الأبيض. وأقبل، حتى وقف جنب الصخرة، فصلّى هناك ما بدا له، ثم رفع رأسه بالدعاء وقال: إلهي إنك ألبستني لباساً من النبوّة  وآتيتني هذا الملك الرفيع، ألهمّ إني أسألك أن تعطيني في بناء بيت المقدس  ما أعطيت خليلك إبراهيم في بناء الكعبة. فاستجاب الله دعواه (وردت دعاه) فيه. ثمّ أمر اتخاذ طعام الشكر. فاجتمع بنو(إسرائيل) فأكلوا وتفرّقوا  وهم في كثرةٍ لا يُحصون. ونظرت الملائكة إلى بناء بيت المقدس فقالوا: إلهنا، ما أشبه بنائه ببناء البيت المعمور، فاجعل لنا سبيلاً لزيارته (1) القيامة(؟)

ثمّ اختار سليمان خدماً للمسجد من عباد بني إسرائيل، لا عمل لهم غير خدمته. فلما فرغوا من ذلك ، سمع ملوك الأطراف به، فجاؤوا وتحيّروا( وردت وافتحروا) في بنائه وصفته، فانقادوا إليه وحضروا مسلمين مؤمنين .

قال (الراوي) فلما أراد أن يقعد لهم ، يقال (أنه) أحضر عشرة  آلاف كرسي ( وردت عشر ألف) من العاج الأبنوس  والصندل

(1) من أكبر طموحات الحركة الماسونية إعادة  بناء هيكل  سليمان، ولا نستطيع حتى الآن أن نجد الجواب القاطع حول تنفيذ هذا الهدف أهو بناء معنوي أو مادي؟

والعرعر. كل كرسي على لون، اتخذته الشياطين لمن يقعد بين يديه.

وصف كرسي سليمان.

فأما كرسي سليمان ، فالذي تولاّه صخر الجني، اتخذه من أنياب الفيلة، وقوائمه من الذهب، وركب فيه من الصور تماثيل الوحوش والسباع وجميع ما يدبّ على الرض مما لا يسبقه إليه أحد.

وكان سليمان يجلس  عليه(وردت إليه) إذا وردت عليه الملوك من أطراف الأرض. فأمّا هذا الكرسي الأعظم فإنه كوكب من الجنة. وكل مَن وصفه فقد قصّر في وصفه.وذلك أنه كان له عارضتان من الذهب  ودرج من الياقوت واللؤلؤ العظيم والزبرجد. حتى أنّ فيه كل لؤلؤة على قدر بيض النعام. وكان صخر الجني قد أحدث في عجائبه. وذلك أنه ركّب فيه  مراقي (1)أول مرقاة منه ككرمـ(ـة) أغصانها من الذهب وأوراقها من الزبرجد وعناقيدها من الجوهر على مثال العنب، من أبيض وأحمر واسود وأصفر وغير ذلك. وركّب في كل جانب من الكرسي، يمنة ويسرة، نخيلاً من الذهب حوضها من الزبرجد، عليها أحمال من الجواهر على مثال الرطب والبسر. وركّب على النخيل طواويس ونسور وعقبان مجوفة بالجواهر، فيدخل الريح من أجوافهان فتصفر صفيراً  لم يسمع السامعون بمثله.وركّب على المرقاة الثانية اسدان على يمين المرقاة وشمالها، وكذلك على المراقي اسودٌ ونسور وطواويس محشوذة مسكاً وعنبراً مسحوقاً.

وكان سليمان إذا صعد المرقاة الأولى  نشرت العقبان والطواويس أجنحتها، فإذا صعد المرقاة الثانية مدّت الأسود أيديها، فإذا صعد الثالثة  سبحت الوحوش والسباع  والطير والهوام، فإذا صعد الرابعة، سمع نداءً من وراءه: يا ابن داود، اشكر الله على هذا الملك الذي أُعطيت. لم أعطه أحد(اً) قبلك ولا يُعطاه أحدٌ بعدك. فإذا صعد إلى الخامسة سمع نداءً آخر من وراءه: اعملوا آل داود شكراً. فإذا صعد إلى السادسة كبّر بنو إسرائيل ورفعوا أصواتهم بالثناء على الله تعالى. فإذا صعد السابعة، دار  الكرسي  بما عليه  ثم يسكن إذا جلس عليه. فإذا جلس نفخت الأسود والنسور والعقبان والطواويس ما في اجوافها من المسك والعنبر على رأس سليمان، ثم تميل إليه حمامة مصنوعة من ذهب على قضيبٍ من الذهب، في منقارها صحيفة من فضة  فيها آيات من الزبور، فيقرأها سليمان على بني إسرائيل.

              

(1) مراقي تأتي بمعنى درجات.