موظف الهاتف
1
غريب الدار
سلسلة ساخرة ، تعرض الحالة التي وصل إليها موظفو الدولة في شتى القطاعات في بلادنا الحبيبة ، من الفساد الإداري والتي يدفع ثمنها شعبنا من دمه وماله وكرامته ، دون أن يكون هناك محاسب أو رقيب
موظف الهاتف
أخيرا وبعد عشرين سنة من الانتظار ، أخبرني جاري أن هناك دفعة جديدة من خطوط الهاتف سيتم تركيبها في حينا المتواضع الفقير ، هرعت مسرعا إلى مركز الاشتراكات ، وفعلا وكما قال جاري فان حظنا سيبتسم لنا اليوم .
أجابني الموظف انه بالفعل جاء دورنا ، ولكن لا يوجد إمكانية للتركيب ، لأن العلبة الوحيدة في حينا لم تعد تتسع للمزيد من الخطوط الجديدة ، ولا بد من الانتظار حتى تتم توسعة الشبكة ، قلت : ومتى يتم ذلك ، قال : هذا في علم الله ، سنتين ...ثلاثة ... أكثر ... أقل ... الله اعلم ؟
عدت إلى الحي خائبا حزينا ، شكوت همي إلى صديقي ، قلت : سنوات وأنا على هذا الحال فما عساني افعل ؟
فقال : يا أخي أنت دائما تصعب الأمور على نفسك وغيرك ، وكأنك لا تعيش في بلدنا ، أنت اليوم في حلب ، وفي العام الألفين من الميلاد ، كل شيء ممنوع وكل شيء مسموح ، النزاهة والحلال والحرام كلمات ماتت ، ولم يعد لها مكانا في قاموس موظفي الحكومة إلا من رحم ربي ، لا تكن متزمتا ، فلا يمكن إجراء أي معاملة من معاملات الدولة إلا ويجب عليك أن تقدم الولاء والقربان والهدية لموظفي الدولة ، وخصوصا معاملات الهاتف وموظفي المراكز ، وأما معاملتك هذه بالذات فلن ينجزها لك إلا موظف التركيبات الزعيم ( أبو علي ) ، فهو ( مدعوم من فوق ) ، صحيح أن ( موسه حاد وأسعاره في السماء ) لكنه ينجز لك عملك بسرعة كبيرة ، وإلا فما عليك إلا أن تقضي بقية عمرك بالانتظار .
قلت : معاذ الله هذه رشوة ، وكيف تسميها بغير مسماها ؟ أتحسب انك إن بدلت اسمها إلى إكرامية أو هدية هل سينقلب الحرام حلالا ؟
قال : ( هيك البلد ماشية ) والعلماء في بلادنا قد أفتوا بأنه يجوز لنا ذلك من باب الضرورة ، وان شئتَ ذهبتُ معك غدا إلى أبي علي واتفقنا معه على كل شيء .
قلت : هل تعرفه ؟
قال : لا داعي فالمال سيعرفنا عليه ، ففي بلدنا الكل صديقك مادمت تقدم أمامهم المال ، وهو وغيره عبيد للمال .
آه ...عفوك يا صديقي .... تذكرت انه يجلس في الشارع الخلفي عند شجرة التوت كل يوم لساعة واحدة بعد العصر ، وهناك تعقد الاتفاقيات معه وتبرم الصفقات ، وتنجز الأعمال التي استحال انجازها من سنين . ثم يغادر إلى الحارة المجاورة والى التي بعدها فهو مسؤول عن ثلاث حارات .
أخيرا وبعد سنوات من التعفف والنزاهة ، قررت الاستسلام لضعفي ، فهكذا الحال في بلادي منذ سنوات طويلة ، ولا يمكنني انتظار القدر حتى تتغير الأحوال ، وأنا في حكم المضطر ، وعزمت أمري أن أمضي في طريق أبيتُ لسنوات أن أسلكَه ، سأقدم الرشوة أو الإكرامية أو الهدية ( سَمِهَا ما شئت ) ولكن مهما اختلفت الأسماء فالذنب واحد ، نعم قررت وأنا أردد : يارب اغفر لي ذنبي ، وسامحني على البدء بعمل غير صالح أضطررت إلى فعله .
في عصر اليوم الثاني ذهبت مع صديقي إلى المكان المعروف ، وهناك كان العشرات أمثالنا ينتظرون المعلم الكبير ، الكل يحمل بيده ورقة أو ملفا ، وصل أبو علي على الموعد دون تأخر ، ترجل من سيارته وهو يرد على الجميع التحية والسلام ، وتحلق الناس حوله والكل يرحب بمقدم الزعيم ، مفرج الهموم وطارد الأحزان ، حلال المشاكل والعقد ، إن ما ينجزه هذا الرجل من أعمال يعجز عنها الوزير نفسه .
خاطب الزعيم منتظريه بأن طلبات الكل ستلبى ، وابتدأ عمله بهدوء وروية ، وهو يحاول توجيه العمل مع مراجعيه بتقسيمهم حسب الحالة ، ونوع المعاملة ، ليقوم بانجاز أعمال الجميع دون إبطاء أو تأخير .
وقال : ليأتيني أولا أصحاب الخطوط المقطوعة كل واحد يكتب الرقم ويضع مع الورقة خمس مائة ليرة ، وبعد ساعة سيتم إصلاح الخلل وتعود الحرارة إلى هاتفه .
دفع الجميع المال دون تردد ، فهذا أبو علي إن قال فعل ، وغادروا وهم يدعون للزعيم بطول العمر (طبعا في وجهه فقط ).
ثم نادى من يريد شراء خط جديد فليأتيني بسرعة ، قيمة الخط ثلاثون ألف ليرة ، وفي أي مكان من هذه المنطقة ، والتركيب بعد ثلاثة أيام ، تدفع النصف حالا وعند التركيب النصف الآخر ، سارع إليه عدد من المنتظرين ، وأعطوه الملفات والنقود ثم غادروا ، وهم يهتفون بحياة الزعيم
و نادى الزعيم مرة أخرى : الآن جاء دور عمليات النقل ( التسعيرة ثلاثة آلاف ليرة تدفع حالا ) والتركيب خلال ثلاثة أيام ، دفع العديد من المنتظرين دون تردد أو تحفظ ، وودعوه بابتسامة مصطنعة جميلة ودعوات أن يطيل الله في عمره ويحفظ له أولاده ،ومن مسافة قصيرة سمعت أحدهم يتمتم وهو يغادر (يلعن أبوك مثل المنشار طالع آكل نازل آكل)
بقي أفراد قلائل والكل يعرض مشكلته على انفراد ، ويودعه بعد أن تتم الصفقة بينهما ويضع أبوعلي في جيوبه التي امتلأت ما تم الاتفاق عليه من المعلوم ، وبتحية الأبطال ( على راسي الزعيم ) مع الدعاء والبركات يغادر الجميع .
( لم يبق في الميدان غير حديدان ) عرضت عليه مشكلتي
فقال : بسيطة ... تكلفك خمسة آلاف ... والتركيب غدا
قلت : لكن ...؟
قال : بدون لكن ..... يا أخي أتحسب أن المال يذهب إلى جيبي ؟ عليًّ الطلاق يا أستاذ ( مالي من الجمل إلا أذنه )، المال يتوزع على جميع الموظفين في المركز، بدأً من أصغرهم إلى المدير، وإلا ... عليك الانتظار لسنوات ، وفي آخر الأمر ستركع ... ثم بعدها ... ستدفع .
أعطيته الملف والمال ، ثم مضيت كما مضى غيري بالشكر والامتنان والدعاء له بطول العمر والصحة والعافية .
قلت لصديقي مستغربا : خلال اقل من ساعة استطاع هذا الموتور أن يجمع مئات الآلاف ، جهارا نهارا ، وأمام مرأى العين ومسمع الجميع ، مع الجهر بالقول وجرأت بالفعل ، دون أن يخشى الرقيب أو يحسب حساب لأي أحد قد ينقل أخباره إلى المسؤولين في الدولة .
قال صديقي : هذه هي الحال ( هيك البلد ماشية ) المهم أننا أنجزنا عملنا .
ثم قلت في نفسي : إن كان هذا حال موظف بسيط ، فما بال من حيزت له الدولة ، وأصبحت مواردها ملك له ، والشعب كلهم له تبع وعبيد.
في صباح اليوم التالي ذهبت مبكرا إلى مكتب الهاتف كما تم الاتفاق مع الزعيم أبو علي ، وأخبرني أن أنتظره الساعة العاشرة عند كبينة الهاتف في الحي .
وصل الزعيم إلى مكان الموعد متأخرا ساعة ونصف ، دون أن يعتذر من العشرات الذين ينتظرونه ، ناداني أول الناس ، فرحت لهذه الخصوصية قال : هات المعاملة وأحْضِر لي علبتي دخان ( مالبورو أحمر ولا تنس الولاعة ) ، ذهبت دون تردد مع أنني في سنين عمري الذي تجاوزت الأربعين لم أضع في فمي هذا المنكر أو أشتري علبة سجائر واحدة ، ولكن للضرورة أحكام كما يرددها السادة العلماء والأفاضل منا والجهلاء .
عدت إلى البيت مسرعا وقمت بوصل الهاتف ، الله اكبر صوت الهاتف يرن ، ليملأ البيت فرحا وسرورا ، وضجيجا عذبا وحبورا ، كنت أول من حمل شرف الرد على الاتصال الأول ، انه صوت أبي علي
قال : هل هنا بيت محمد حداد
قلت : نعم أنا هو يا أبا علي
قال : هذا خطك بدا بالعمل .... يالله ..... مع السلامة
قلت : ألف ألف شكر لك يا ( عمي أبا علي ) وألبسك الله ثوب العافية ، وأطال الله في عمرك ، وفرج الله همك كما فرجت همي ، ونسيت من شدة الفرحة انه ما قام بعمله هذا تفضلاً علي أو أداءً للواجب ؟ ولكن وبعد أن وضعت بين يديه مالي وضعفي وخنوعي و كرامتي .
وبسرعة البرق طار الخبر ، الكل بدأ يتصل ويبارك ، وتوزع الرقم إلى جميع المعارف والأصحاب ، وعشنا بعدها أسبوعا كاملا في ( سبات ونبات ) ، ننام فرحين في غرفة واحدة بجانب مولودنا الجديد ( عفوا هاتفنا ) ، الذي انتظرناه عشرين سنة مع الكثير من المعانات والأمنيات ، إذا سمعنا جرسه يرن طربنا رقصنا وتسابقنا إلى الرد بغبطة وسرور . وان سكت لفترة داعبناه بفرح وحبور .
بعد أسبوع استيقظت العائلة حزينة كئيبة ، ماعاد لوليدنا صوت أوضجيج ، لقد انقطع الهاتف ، خرجت من البيت والتقيت بصديقي وعرضت عليه الحال ، وقلت سأذهب إلى مركز الهاتف وأقدم شكوى ليتم الإصلاح بسرعة .
قال صديقي : عَمَلَها ابن الحرام ؟؟؟
قلت : ماذا تقصد ؟
قال : هذه عادته كل يوم ، فهو يصلح بعض الخطوط ، ثم يقوم بقطعها عن مجموعات جديدة من الناس عامدا متعمدا ، لينتظرهم في العصر تحت شجرة التوت ، وهناك يستقبلهم من جديد ، لتعقد الصفقات وبدون قيود ، وتعود الحرارة إلى هواتفهم بعد دفع المعلوم ( خمس مائة ليرة ) ، وإلا ستتكرر الانقطاعات ولن تأتي ورشة الصيانة إلا بعد أيام بل أسابيع ، ولكن أيضا بعد أن يرغم الجميع على دفع المعلوم
بعدها اتخذت من القاعدة الفقهية مرجعا لي في جميع ملماتي وأزماتي ( الضرورات تبيح المحظورات ) ، وأصبحت مثل الجميع هنا ، ادفع دون تحفظ ، واشتري الوقت بالذنب ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
سارعت إلى أبي علي وأعطيته المعلوم ، وعقدت معه اتفاقا دائما بأن يشملني بعطفه ورعايته ، و أن لا ينقطع هاتفي أبدا ، وله في كل شهر مثلها من ( المعلوم ) هدية نابعة من القلب ، مملوءة بالحب ، وعن طيب خاطر ، ( حرام موظف دولة وتجوز عليه الصدقة )
وأصبحت من المحظوظين ، فالهاتف للسنة الثالثة لم ينقطع ، لأن اتفاقنا ساري المفعول و( عمي أبو علي ) لعقوده واتفاقاته من الصادقين .
أخيرا ولحسن أدائه وإخلاصه في العمل فقد تمت ترقيته إلى منصب يحلم فيه الكثيرون من أمثاله ( طبعا فقط الحرمية والسارقون ) ، فرح الحي كله وقالوا انتهت أيامك يا أبا علي ، وصار الكل مبتهج سعيد .
وجاءنا بعده موظف جديد ، أبو كنجو ذو الشاربين ذلك البطل الصنديد ، إذا تنازل وكلمك فانه يوم سعد وعيد ، أما بطنه فكبيرة متسعة إن أعطيته فيطلب المزيد ، وإلا فرأسه يابس وحاله عنيد ، وهو أيضا مخبر للدولة ولا يخاف من أحد وعدا أو وعيد . وبتقرير منه يضعك سنوات خلف قضبان الحديد .
جلست أتحسر على أيامك يا أبا علي ، وتذكرت المثل الذي حكى لي قصته والدي رحمه الله ، والذي يقول ...
....( الله يرحم النباش الأول )