قصة
د. أحمد الخميسي. كاتب مصري
كان يهم بإلقاء عقب سيجارة في الشارع عندما لمح ورقة مجعدة على الرصيف ترتعش أطرافها من هبات الهواء . انحني ورفعها قربها من عينيه وقرأ تحت النور الشاحب السطور الأولى منها فاكتشف أنها قصة، حدق فيها فطرفت بعينيها بنظرة غائمة محرومة .
نفض ما علق بسطحها من غبار ووضعها في جيب الجاكتة الداخلي . من عند المحطة استقل الأتوبيس ووجد مقعدا شاغرا قرب نافذة فجلس وراح يتابع ببصره الطريق وهو ينزلق للوراء بمداخل بيوت معتمة وأضواء محلات وظلال بشر، لكن عينيه الداخليتين كانتا موجهتين إليها في جيبه، شاعرا بالسعادة لأنه قابلها وبالقلق من أن تكون خيالا . بشكل لا إرادي مد أطراف أصابعه وأخرجها بحرص ، نظر إليها فوجدها نائمة بعمق وعلامات التعب بادية على وجهها الصغير كأنما قطعت طريقا طويلا أنهكها . مرقت نسمة باردة من النافذة ومستها ، فحركت أنفها الدقيق الصغير لأعلى تتلمس الدفء المنبعث من صدره ، فأعادها إلي مكانها وأرقدها هناك برفق محاذرا أن يهتز.
كانت الساعة قد قاربت التاسعة مساء حين بلغ البيت . فتح باب الشقة ودخل إلي صمت الفسحة ، ولاقته الصور المعلقة على الجدران تبثه برصانة وحزن رسالة عتاب مبهم. عن يمينه حجرة النوم ، وعن يساره حجرة متوسطة بابها مفتوح ، دلف إليها ، مكتبه تحت نافذة عريضة ، جلس والنافذة خلفه ، عند الجدار المقابل كنبة ، وفي المنتصف منضدة واطئة بسطح من زجاج . أضاء الأباجورة الموضوعة على المكتب ، وأزاح صفين من الكتب المكدسة ، وفرد القصة أمامه . نظر فيها باهتمام. بوسعه الآن أن يتأملها بهدوء . دقيقة ، صغيرة كلعبة ، يصعد صدرها ويهبط منتظما بكلمات معدودة نظيفة. وبينما هو مستغرق في تأملها فتحت عينيها، إما من وخز الضوء أو الجوع، وأرسلت من عينين جميلتين نظرة غائمة ، ثم مالت بوجهها متجنبة مصدر الضوء ، فأطفأ الأباجورة ، وأخرج من الجاكتة الملقاة على ظهر الكرسي علبة سجائره ، وجلس والنافذة خلفه يدخن ويقرأ على مهل .
من السطور التي كان خطها واضحا تراكبت قصة نجار شاب في قرية ، هام بصبية آية في الحسن والجمال ، إذا تنفست ، وإذا نامت ، وإذا مشت وارتجت فاكهة صدرها ، فإن ضحكت تتابعت ألوان الجنة كالمروحة في عينيها. ولع بها ، ونما هواها في روحه ، فصارت كل نهار تطل كالقمر على قلبه ، وتحرق كل ليل فؤاده كالشمس . أخيرا عقد عليها ، وفي الليلة الأولى لهما داخل الكوخ ، راح يفك أزرار ثوبها مرسلا حولها أغنياته ، لكنه كان ما أن ينتهي من فك الزر الأخير حتى تعود الأزرار وتسد الثوب المسحور، يحاول ثانية ، مرة بعد الأخرى ، إلي أن يتقد من لوعته وتتوهج عظامه فيحترق من رأسه إلي قدميه أمام عينيها . مساء اليوم التالي يولد النجار من جديد ، يقف ثانية مرتجفا قبالتها ، ويمد أصابع يديه الاثنتين مرتعشة إلي طرفي الثوب، منهكا من دورة اليأس والأمل ، ومن التوتر الذي يتوهج منه الضوء ، ومن انطفاء الضوء .
في الهامش كانت هناك ملاحظات مدونة أغلبها غير مقروء ، كتبت بخط متسرع دقيق ، كأن التي سجلتها امرأة ، أكانت تلك ملاحظات الصبية حاولت بها أن تفصح عن شيء؟عن أمل عصف بها داخل الكوخ في اكتمال الكائن الإنساني ؟ . لم يكن الخط واضحا .
وضع طرف تمثال حديدي صغير على حافة الورقة لتظل مفرودة ، ونهض متجها إلي المطبخ . على الرخام قرب الحوض رأى أطباقا متسخة وأكوابا بتفل الشاي . فتح الثلاجة ليرى إن كان فيها ما يثير شهيته فلم يجد سوى معلبات سردين . أغلق باب الثلاجة وهو يتساءل هل ثمة سعادة في الحب ؟ . خرج إلي الفسحة ، وتوقف في منتصفها ، استولت عليه رغبة جامحة أن يتحدث إلي أحد ، كالنبتة التي يتحتم عليها أن تشق سطح الأرض لتحيا ، شخص ما ، لن يصارحه بأنه وجد قصة ، فقط يتوق إلي تبديد الصمت بصوت إنساني حي . تناول دفتر التليفونات من فوق منضدة بين مقعدين ، وأخذ واقفا يمر ببصره على الأسماء بادئا من الصفحة الأولى ، معارف ، أرقام مطاعم الوجبات السريعة ، صيدلية ، مغسلة ، قلة من الأصدقاء فارق بعضهم الدنيا لكنه لا يجرؤ على شطب أسمائهم . حط عليه ذلك الشعور الثقيل الذي يهبط عليه عادة في ذلك الوقت الذي يسبق الليل، أنه مقطوع، سقط على سطح الكون بالمصادفة ، مثل قطرة مطر أو نقطة ضوء ، كل ما يجمعه بالعالم وجود مشترك مبهم . لم يعتب على شيء ، لابد أنه هو الآخر مذنب في جانب ما . عاد إلي حجرة المكتب وأحنى رأسه وكتفيه فوق القصة ، مرر أصابعه بين سطورها المنسدلة على جبينها ، فباعدت ما بين جفونها بتعب، ولاحت في عينيها لمعة بسمة واهنة ، وتأملته مرهقة بالعطف الذي يقود الأطفال إلي الحقيقة . بسط راحته خفيفا فوق سطحها ، وأبقاها هكذا قليلا، يبثها بحرارة يده محبته ، ثم تركها تنعس .
ثلاثة أيام في الأسبوع يذهب إلي عمله، يستيقظ في الثامنة ، يغتسل ويرتدي ملابسه ، يعد إفطارا مع القهوة ، يتناوله دون عجلة ، ثم يغادر البيت في التاسعة ، بعد نصف الساعة يبلغ بوابة الجامعة ، يقضي ساعتين أو ثلاث مابين المحاضرات واجتماعات مجلس القسم ، ثم يرجع إلي البيت فيعكف على كتاب أو بحث ، يخرج في المساء لمجرد جولة في الشوارع يري المقاهي والناس ويريهم نفسه، أحيانا يقصد بيت أخته في زيارة قصيرة، وفيما ندر يشهد عرضا مسرحيا . يعيش هذه الحياة ويتأملها ، كأنما يراها وهو يمضي بجوارها من خلف زجاج شفاف يحجب عنه العطر والأصوات والدفء .
الآن ، ومنذ وقت ، ملأت عليه القصة حياته ، فصار يلزم الصمت حين يتجادل زملاؤه بالعمل في أسباب الشعور العام بالضياع واللاجدوى ، أو كيف تحول الوطن من التاريخ والآمال إلي مجرد مكان ، يتظاهر بأنه يصغي ويهز رأسه كمن يتابع كل كلمة بينما يطوي قلبه على صورتها بعنف ، كما تعتصر قبضة الغريق طوق النجاة ، وما أن يؤوب إلي البيت حتى يتجه إليها رأسا ، يتفقد حالتها ، يجلس بالقرب منها ويطعمها كلماته الساخنة الصغيرة ، واحدة وراء أخرى ، ويمكث يرقب فمها الدقيق وهي تتثاءب شبعانة هانئة ، إلي أن ترفع بصرها إلي سقف الحجرة وتغيب في رسوم الظلال هناك، تلاغي نفسها بغمغمة حتى تنعس، وتفعم قلبه برائحة الطفولة الطاهرة.
يوما بعد يوم تكبر القصة على مهل ، تتقوت في امتلائها على تحولات روحه وقراءاته ويقينه وشكوكه وذكرياته التي يودعها فيها كل ليلة ، يوما بعد يوم يتماسك جسدها وتنتبه حواسها ، وتغدو نظرتها مع الوقت أكثر وعيا . صارت تتعرف إلي صوته ووقع خطواته حين يقبل عليها ، ثم فاجأته ذات يوم فانفلتت من بين ذراعيه ، ووقفت وحدها من دون مساندة ، لحظة كاملة ، ومالبثت أن اندفعت بجنبها إلي الناحية اليسرى تتدافع في اتجاه واحد حتى سقطت على الأرض . بعد ذلك باتت تمشي معتمدة على قطع الأثاث ، تتأرجح في الفراغات بينها ، ثم ترفع يديها محاولة أن تحتفظ بتوازنها وحدها ، وما أن توشك على الوقوع حتى تلتفت نحو مقعده بلهفة ، وتنطلق إلي ذراعيه المشرعتين فينتشلها لأعلى ، تطوق عنقه بأنفاس متلاحقة كمن نجا بمعجزة من موت محقق ، فيضمها إليه بشدة كما تحتضن ارض جرداء نبتة صغيرة مورقة .
في المساء يسود الهدوء حتى أنه يستطيع أن يسمع الأصوات الخفيضة من الطريق ، أو مواء قطة على السلالم ، يجلس ويكتب وتقف هي على الكرسي خلف ظهره ، تتعلق بعنقه، وتتابع من وراء رأسه ما يكتبه أولا بأول، هذه المرة أصابتها الدهشة وهي تقرأ ما يخطه عن أحلام شبابه التي لم تتحقق ، كل تلك الأحلام ؟ وتعجبت كيف يبدأ الإنسان كبيرا وينتهي صغيرا ! ثم انهمكت بشغف في متابعة حكايته مع نوال ، وكيف تعرف بها بالمصادفة في محل بيع ملابس، وكيف انتهى ما بينهما . اعتصرتها اللوعة حين قرأت :" تقولين لي ألا نلتقي بعد ذلك ؟ كأنك تأمرينني أن أكف عن التنفس ". ارتجفت وشحب وجهها وهو يصف ما تقطر في روحه من شعور بأن السعادة في الحياة وهم عزيز . انزلقت من على الكرسي من غير أن ينتبه إليها ، واتجهت إلي الكنبة المقابلة . تربعت وطفقت تتطلع إلي ظهره العريض ، صارت قصته جزءا من تكوينها ، فامتلأت عيناها بالدمع وأحبته حتى أخذها النعاس .
اليوم تنظيف الشقة ، تدخل نعيمة الصعيدية التي تعول زوجها النقاش وولديها ، سمراء نحيفة ومتماسكة كالعصا، تقف برأس مرفوع عليه منديل ، تضحك وهي تؤرجح بقجة بيدها : هيه .. الدنيا حلوة ؟ . بعد قليل تصل أخته وداد لاهثة من الربو لتشرف على التنظيف والطبخ ، يتعلل بموعد هام ليتفادى النقار الذي سينشأ حتما بين المرأتين لأوهي سبب . يغادر البيت ، يشتري في الطريق إحدى الصحف ثم يجلس على أول مقهى يراه يقرؤها ويدخن . عند عودته صادفه محل لعب أطفال ، فتمهل أمامه ، تأمل بطة بزمبرك تسبح في حوض ماء ، تخيل فرحتها بها ، فاشترى لها واحدة . تستقبل البطة بدهشة وسرور بالغ ، يجلس معها في جو الحمام الرطب يراقبان البطة وهي تتحرك في مياه المغطس ! بعد قليل تنصرف أخته وداد قائلة : عندك أكل أسبوع ، لا تنس وضع الطعام في الثلاجة حين يبرد .
في الثامنة مساء عندما هدأت حرارة الجو اصطحبها إلي الحديقة المجاورة ، هناك سارا معا في ممشى ضيق بين صفين من أشجار البانسيانا الوارفة ، رفعت رأسها لأعلى وكفها راقدة في كفه ، وأشارت بإصبعها إلي زهرة حمراء عالية دون أن تجد لها اسما ، قال لها " زهرة " ، أعادت نطق الكلمة باستمتاع كأن الزهرة توجد لأول مرة ، فأخذ يسمي لها الأشجار والطير، فلم تعر حديثه اهتماما وانصرفت تتأمل بطريقتها كل ما حولها . عندما أحسا بإنهاك نضر ومنعش قررا العودة . يسير على الرصيف في اتجاه البيت ويرقب قدميها الصغيرتين في صندل أصفر وهما تتبادلان الخطو إلي الأمام .
في نحو السادسة من عمرها كانت تقول " باباطس" ، كان يحب أخطاءها، ولم يكن متحمسا لتصحيح الكلمة لها ، وعندما التحقت بالمدرسة وقرأت كلمة " بطاطس" لأول مرة في كتاب المطالعة عادت ورمت بحقيبة الكتب على الأرض غاضبة وباعدت ما بين ذراعيها باستياء" إنهم يكتبون ما يريدونه وليس ما أقوله ! ". يجلس ويراجع معها ألف باء، وجدول الضرب، ونصوص القراءة ، وخريطة الكرة الأرضية ، القارات والنجوم والأنهار والشلالات ومناجم الذهب والنحاس، ولا يقول لها إن في كل تلك الأماكن بشرا متشابهين جدا ، ومختلفين ، يبحثون جميعا عن السعادة . تفرد ذراعها على المنضدة وتضع رأسها فوقه وتدعي النعاس بزفرة إذعان ضجرة.
يكتب ويعدل ويكتب ساعات طويلة ، تنمو، يتركها ، ينام ويستيقظ من تلقاء نفسه بعد غفوة مؤرقا بفكرة أو جملة ، يمد ذراعه إلي الكومودينو المجاور للسرير ، يضئ النور، يسير نحوها في نومه يدون ملاحظة على الهامش ، ويعود إلي السرير نصف نائم . كان يسجل على صفحتها كل ما لايقوله لها ، فيما بعد عندما تصبح شابة ستقرر بنفسها ما الذي ستحتاجه من كل هذا فتتذكره ، وما الذي سوف تهمله ويظل مع ذلك جزءا غير مرئي من تكوينها .
كان الصمت يسود الشقة وهي نائمة حين ارتدى ملابسه ليذهب إلي الجامعة . مر على حراس بوابة القبة الضخمة وهم يتفحصون بطاقة كل طالب بدقة . منذ عشرين عاما ، عندما بدأ عمله هنا ، كان مشحونا بالحماسة ، لكنها تبددت وهو يرى كل يوم وجوه الطلاب الفقراء الصفراء، وتمكن منه الشك في قيمة المعرفة ، وكاد يوقن أن المحاضرات التي يلقيها هي القدر الضروري من الصدق الذي تواصل به الكذبة حياتها.
بعد المحاضرة استراح في حجرة الأساتذة ، ودار الحديث كالعادة عن الترقيات وزيادة الراتب ثم تطرق أحدهم إلي شائعة سرقة رسالة علمية، وغمز آخر بعينه متسائلا عن حكاية الدكتورة فلانة مع عميد الكلية . وسطع وجهها في خياله مثل شمس تغمر حجرة معتمة ، ومنى نفسه بأنه سيراها ويضع يديها بين يديه بعد قليل ، فتنظر إليه بهدوء وتفهم كل ما يريد قوله من دون أن ينطق بحرف .
كانت قد بلغت العاشرة ، وأصبح عندها الآن " ما تحبه " ، و " ما لا تحبه"، وأخذت أحيانا تثب من بين يديه وهو يكتب ، تنفض عنها ما يخطه من سطور ، وتصيح فيه ثائرة : كفى . دعنا نتجول في الميادين نتفرج بالمحلات نشتري آيس كريم وبسبوسة . وتضحك فيتناثر رذاذ نور من كل اهتزازة فيها كأنما بداخلها قطعة ألماس مشعة . يطاوعها ، يترك كل شيء ويخرج معها ويعودان محملين بأكياس الطعام والفاكهة .
حين كانا جالسين متجاورين على أريكة أمام التلفزيون ذراعه مدلاة تطوق كتفها، سألته بدهشة وأصبعها ممتدة إلي مشهد قبلة حارة غيبت عاشقين " لماذا يأكلان بعضهما بعضا ؟ " . هل كانت تفارق طفولتها حينذاك ؟ أم بعد ذلك بقليل .. عندما اختفت الأسئلة ؟ وتغير صوتها الطفولي الذي يشبه صوت الفاكهة وهي تتكسر؟ ، وحين أخذت تصبح أنحف وأطول كأن شيئا راح يعتصرها ويضغطها ويشكلها في صورة أخرى ، لتتفجر فيها في غمضة عين فاكهة الليل ؟ تكور نهداها صغيرين لكن واضحين، وغدا عودها أكثر امتلاء وصلابة ، وصارت نظرتها إكثر إثارة للعاطفة والعقل . كانت مثل سكين غير مرهفة ، وفجأة أصبح حدها لامعا جارحا . متى انتبه إلي ذلك ؟ هل حين سألته بنظرة شاردة عن اسم نجم سينمائي وسيم ؟ أم عندما دخل إلي حجرتها على غفلة فاشتعل وجهها بالحمرة وتوارت خلف ضلفة خزانة مبهورة، تداري صدرها بيدها؟ ألم يدرك لحظتها أنه يشهد زوال آخر خيوط الصبا ؟ ألم يفهم نظرة عينيها المصوبة نحوه بفرحة صغيرة خجلة ، قلقة مذنبة تطلب الغفران لأنها تغيرت؟ أم أنه انتبه لذلك التحول الحاسم يوم أن خرجا للتسوق فالتفتت إليها أعين الشبان عند المحلات تحدق فيها ، وأحنى أحدهم رأسه لها بنظرة خاصة ؟ . لن يجلس بعد الآن أبدا بجوار سريرها يتملى وجهها طويلا ، ولن تناغي من جديد نفسها وتغيب في ظلال الرسوم على السقف ، لن تسأله عن اسم الزهرة ، لن تتعلق أبدا بعنقه ، لن تلثغ بكلمة "باباطس " . الآن صارت تتخير الجونللات والبلوزات وهي تشتريها بدقة وصبر، وفي البيت تتأمل في المرآة كل جانب من وجهها، وأخذت روحها تنأى عنه يوما بعد يوم، مفارقة ، مودعة إلي الأبد . لكن هل ستعود يوما لتحدق إلي ذلك الماضي فتتذكر هذه الحياة ؟
بالأمس وقت الغروب كانت جالسة على فوتيه قرب " أباجورة" وبيدها كتاب ، لمحته يعبر الصالة فسألته تفسيرا لكلمة في بيت من قصيدة ، جلس بالقرب منها وأرخى ذراعه على مسند الفوتيه ، وعندما انحنى للأمام قليلا لينظر في الكتاب ، لامست كتفه كتفها ، حدق في الكتاب ، ومرت وهي نصف مطرقة في سكون بطرف إظفرها خفيفا على سطح كفه الراقدة كأنما عرضا لمجرد أنها لا تجد ما تنشغل به . أكان الأمر كذلك ؟ أم أنها كانت تقف على مشارف عالم جديد ، تستكشفه بخدش صغير؟ . ارتعش من مرور إظفرها على جلده . حول بصره ببطء إلي جانب وجهها ، فوجده هادئا محايدا مثل وجه شخص يتنفس أو يشرب جرعة ماء ، حياد أقرب إلي اللامبالاة . اشتعلت النار في بدنه وروحه من امتزاج البراءة المطلقة بالخطر الكامن في كيانها .
في صباح اليوم التالي لم يكن واثقا ما إن كانت قد مرت بإظفرها على سطح كفه بالفعل أم أنه فكر في كتابة ذلك فوجده فيها ؟ في المساء أضاف إلي مشهد جلستها أن شعرها كان ملفوفا كذيل حصان ، وحول عنقها وبشرة وجهها الوردية دارت رائحة هينة كتفاح في هواء الحقول وحامت عند صدرها فوق بلوزتها الزرقاء المفتوحة وحول البنطلون الأحمر الداكن الضيق .
الآن صارت في أوقات غير قليلة تخرج وحدها ، تقول " ظهر فيلم جديد رائع، سأذهب لأراه " ، أو " سألتقي بصديقتي الليلة لنتجول معها " ، وتطبع قبلة خفيفة على وجنته وتنصرف مسرعة، غدت أقرب إلي أن تكون شابة ، جميلة جمالا فوق القدرة على الاحتمال ، شفتاها منفرجتان بكسل، ممتلئتان بعسل مثل تين برشومي مشقوق، وفي عينيها ينبعث من داخلها قلق وتمرد يجعلها في الكثير من الأحيان تخاصم الأمكنة التي يحددها هو بأمكنة أخرى ، بعيدة أو مجهولة ، وتعاند الأحداث بوقائع من خيالها ، فإذا انصاعت لما يكتبه فعلت ذلك بروح مكظومة غاضبة .
تجاوز الوقت العاشرة مساء، جلس يكتب تحت ضوء المصباح. يهب عليه من النافذة المفتوحة هواء خفيف، يدرك أنه في سباق معها، عليه أن يضخ آخر نبضة في قلبه إلي قلبها ، قبل أن تتملص منه وتفلت مندفعة نهائيا إلي وجودها لتشق الكون بوجهها كما تشق مقدمة المركب بحرا ، فيحكم الناس عليها بصفتها حياة قائمة بذاتها ، بينما يقف هو على الشاطيء وسط حشد من الآلاف ، ضئيلا ، يتطلع إليها ، بعيدا، عرضة للتأثر بها مثل الآخرين، وهي لا تبالي إلا بنفسها وبجمالها وبشعورها القوي بذاتها ووجودها . عليه الآن قبل أن تفلت من يديه إلي الأبد أن يودع فيها تلك الجوهرة التي تميز إنسانا عن آخر، الشيء المكون من آلاف العناصر والذكريات والعواطف المتفاعلة ، الجوهرة التي تشبه قدر الإنسان لأنها تلمع وتنبثق من صميم تكوينه كله وتمضي معه وبه إلي النهاية ، الشيء الذي يتفق ومغزى الثوب السحري الذي ولدت به ، الاستنتاج الذي تقطر من جدران حياته كلها . الآن يعي النجار وهو يحترق أمام الصبية أن الحياة محكومة بجوهر فوضوي ، يضوي في كسر صغيرة من مرآيا الحطام ، في لحظات افتراق العشاق ، وفي نظرات الأطفال البريئة الممزوجة بعتاب مؤلم ، في الطمع والقسوة وسوء الظن، في الموت المستهزئ بكل منطق ، في جفاف الورود . يعي النجار كل هذا ، لكنه ما أن يولد ثانية حتى يكون قد نسي كل ما تعلمه ، منصاعا لحرارة العشق ، فيعود إلي أزرار الثوب السحري يحاول فكها ، محترقا مرة بعد الأخرى .
خمس ليال كاملة يكتب كالمحموم ، يكاد لا يرى سوى صور تتبادل مواقعها كالومض بلا نهاية ، صور تتغير قليلا كل مرة ، تختفي ، وتظهر كأنها أخرى ، تتدفق في سيل متوهج من حمم مصهورة، ويقتطف من اندفاعها كلمة أو نظرة كزهرة من النار ، يتأملها بين يديه فتفتر وتعتم ، فينظر إلي ما كتبه بتشكك ، ويشطب فقرات كاملة ، ينهض ويتجه إلي المطبخ ، يفتح علبة طعام محفوظ ، يأكل مافيها باردا وعقله في الورق ، يشطف أطراف أصابعه ويرجع للكتابة ، يريد أن ينتهي قبل أن تفلت من بين يديه ، قبل أن تهرب من روحه ، خمس ليال لم يرفع خلالها سماعة الهاتف، وكانت تمر من أمامه فتستفسر منه عن شيء ، فيجيبها بعصبية وبجفاء لم تعهده ، أو ينهرها طالبا منها أن تسكت ، أو يتجاهلها تماما كأنها لم تقل شيئا . ينهض ويعد فنجان قهوة ، يجلس من جديد . في الرابعة فجرا ، كان قد أودعها كل مالديه ، فنهض شاحب الوجه واليدين خاويا كالشبح . ألقى بنفسه على الفراش تحت ضوء النافذة الخافت وأحس بالراحة ، كمن تخلص من عبء ثقيل . في تلك اللحظة وقفت هي في ركن الحجرة ، تأملته بنظرة مشفقة ، وهي تتساءل عما جناه من كل ذلك ؟ ثم انسلت بهدوء إلي الشرفة ومكثت هناك وحدها وهي تحس بالحزن لأنها أصبحت حرة .
في الصباح أعد لنفسه طعام الإفطار ودخل الحمام ليحلق ذقنه ، رأى عينيه حمرواين من قلة النوم، واستغرب وجهه . ارتدى ملابسه وغادر البيت إلي العمل مرهقا ، وحين عاد إليها وجدها جالسة قرب الراديو بهدوء ، في بلوزة محبوكة وجونللة واسعة ، شعرها منسدل على جانبي وجهها ، وقد أسندت ذقنها إلي قبضتها . لم تنهض ، لم ترفع يديها لأعلى لتستقبله بفرح ، لم تثب وتجرجره خلفها لتريه شيئا جديدا، فقط جلست بعينين رصينتين تستمع إلي أغنية .
في عصر ذلك اليوم ارتفعت درجة حرارتها فجأة ، فصارت تفتح أدراج الخزانات بحثا عن أسبرين وهي تهذي تقريبا ، دار حولها بقلق ، وحين تحسس جبينها وجده كالنار ، وفي انتظار الطبيب سألها مفزوعا : ماذا بك ؟ أجابته بكلمات مهشمة غير مفهومة وهي تشير إلي صدرها . ثلاثة أيام مضنية مرت ، يطعمها ويسقيها ينظر إليها برجاء وهي راقدة في السرير ، وفي اليوم الخامس بدأت تتماثل للشفاء ، فتطلع إليها بفرح وقد زال خوفه، لكنها تأملته بعتاب صارم ، بنظرة أقرب إلي القسوة ، كأنما لم يربط بينهما شيء من قبل . حين استعادت عافيتها تماما بدأت تتحرك داخل المنزل بوجه شاحب ، تحرك رأسها ببطء ، وتمشي بحرص كامرأة كبيرة محبطة . أمسك بذقنها بأصابعه النحيفة ونظر في عينيها ليدرك ما الذي طرأ عليها ، غير أنها أفلتت منه بفتور.
جلس في الشرفة وبيده قدح ساخن من الشاي، تتوالى أضواء السيارات تخترق عتمة الشارع ثم تتوارى . ما الذي بدلها هكذا ؟ كأنها شخص آخر؟ ومن أين تسللت إليها برودة الصقيع حين يطبق على كل شيء؟ أهي الوعكة التي ألمت بها ؟ أم أنها تصد بشبابها ما تقطر على جدران حياته من إحباط وشك ؟ مدركة أن عليها أن تصارع من أجل حياتها هي ، بمخاوفها وآمالها هي ، بعيدا عنه؟
نهض وقد شبت فيه الرغبة أن يعانقها بحرارة ، لأنها لم تستسلم، ولم ترضخ. اتجه إلي حجرتها، دخل فلم يجدها هناك، وقبل أن يستدير خارجا لمح خطابا ملقى على غطاء السرير، عاد وتناوله باستغراب، فوجد رسالة بدون توقيع يصرح فيها صاحبها أنه يحترق شوقا إليها كل يوم ، وأن عينيها لا تفارقان مخيلته. أيكون ذلك الشاب الأسمر النحيف الذي أحنى لها رأسه بإعجاب ذات مرة ؟ . ثم برق في رأسه خاطر عجيب ، فرج الهواء بالخطاب في يده متسائلا - أيشبه هذا خطها ؟ هل أرادت أن تنقل له شيئا على هذا النحو ؟ وإلي أين خرجت ؟
ألقى نظرة سريعة على ساعته وهو يرتدي ملابسه ، وغادر البيت هو الآخر يذرع الشوارع القريبة من دون هدف ، ثلاث ساعات مشاها ، عاد بعدها وحين فتح باب الشقة وجدها أمامه ، واقفة خلف الباب وبيدها حقيبة صغيرة ، كأنما تنتظر رجوعه . وقفت أمامه مكتملة الجمال ، بنظرة المرأة التي صهرتها العاطفة فأصبح كل ما فيها يبث الدفء ، وقفت متأهبة لتشق الكون، وتتعرف على حقيقتها ، حين تتحطم على الصخور ، أو وهي تنجو من الرياح بمعجزة ، هي الآن لا تبالي إلا بنفسها ، لكن بحزن . حدق فيها طويلا ، مستفسرا عن شيء لا يعرفه ، فنظرت إليه كما يتطلع المرء إلي شخص أمامه، يملي عينيه منه بعمق استعدادا لكي لايراه ، ثم غامت عيناها بعتاب ، وارتعشت شفتاها . تقدم نحوها وعيناه مفتوحتان على آخرهما بذهول . خطت نحوه خطوة ثم توقفت. رفعت كتفها اليمنى وأوشكت أن تقول شيئا ثم تراجعت وأحاطت عنقه بذراع واحدة ، أحس بوجهها دافئا دامعا . تراخت يدها ، تركته ، ثم سارت أمامه وانصرفت . هبط على السلم خلفها ، وتبعها إلي خارج البيت. أرسل بصره خلفها وهي تمضي بالحقيبة ، إلي أين ؟ إلي ماذا ؟
انعطفت إلي شارع جانبي وتوارت خلف الناصية وهو متجمد في مكانه .
ظل لديه أمل أنها قد تعود في المساء ، في الليل ، في الفجر ، انتظرها بكل ما في روحه من عصب وعاطفة وطاقة وهو يحدث نفسه بأن الانتظار الحقيقي حين يكون بكل كيان الإنسان ، يفتح طريقا للنفوس ترجع عبره . لم ينم إلي الصباح ، ولم ترجع، فأيقن أنها لن تعود ، وأنه فقدها إلي الأبد .