شماعة ميرون

ميسون أسدي

[email protected]

أخذت عبير نفسا عميقا وزفرته تاركة أثره على زجاج شباك حافلة الركاب، ورسمت بأنملة إبهامها على الزجاج دوائر حتى تطاير بخار زفيرها. وقالت بتأفف لصديقتها ميرون التي تجلس بجانبها: أعتقد يا ميرون أننا مسيّرون ولسنا مخيّرين.. فأنا مثلا، لم أختر أهلي، لم أختر زوجي، لم أختر ديانتي.. لم أختر بلدي، حتى أصدقائي، جمعتني الصدف بهم، لوقوفي لجانبهم في ساعات الشدة، أو لمجرد عملي معهم في نفس المكان.

هزت ميرون رأسها ولم تفهم منها عبير إذا كانت توافقها الرأي أو تعارضها.

فكرت عبير برد فعل صديقتها ميرون التي تزوجت منذ أكثر من عشرين عاما، وما زالت على غير وفاق مع أهل زوجها، هي التي حضرت من القرية إلى هذا المجتمع المدني، وهم الذين يعتبرون أنفسهم أرقى منها بدرجات، وقد تقبلوها على مضض، بعد أن عشقها ابنهم البكر، الذي يهابه الجميع، واختارها زوجة له رغم رفضهم غير المعلن.

أطلق والد ميرون على ابنته هذا الاسم، لذكرى بلدته التي هجر منها مع باقي أفراد عائلته، على يد العصابات الصهيونية عام 1948، والتي تقع في السفح الشرقي لجبل الجرمق أعلى جبال فلسطين وتطل على تلال الجليل الأعلى، حيث يمر في المنطقة الجنوبية من القرية وادي ميرون، والذي سميت القرية على اسمه.

عاشت ميرون "أم ذيب" في عالم خاص بها، لا يمت بصلة إلى المجتمع العربي الحيفاوي، وعائلة زوجها الارستقراطية ذات الأسماء الرنانة والطنانة: بريجيت، أورلي، فيرونيكا، جوني، فرانك وطوني.. وبالنكاية بهم أطلقت على أبنائها أسماء عربية بحتة: ذيب وأسد، وصباح، وباتت ميرون مصدر استهزاء لأهل زوجها في المناسبات العائلية، فتُصحح بسخرية عندما تلفظ اسم جوني وتشدد على حرف الجيم، وتطلب منها سلفتها بريجيت، أن تلفظ حرف الجيم من بين أسنانها وشفاهها وليس من حنجرتها مثل القرويين. فضاقت بهم ميرون ذرعا وطغى عليها عويل باطني فاق صوت العقل نحوهم. ابتعدت عنهم واستمتعت ميرون بقدر كبير من حياتها اليومية مع زوجها وأبنائها. عشقت التسوق وشراء أطايب الطعام وأشرطة الغناء لفريد الأطرش وصباح والاستماع إليهم يوميا.

كثيرًا ما كانت تعلن ميرون أمام صديقتها عبير، أنها ترغب في زيارة المسجد الأقصى.. وفي أحد الأيام أعلمتها عبير بأنها ستزور القدس لقضاء بعض الأعمال، وعرضت عليها مرافقتها، فوافقت على الفور لمعرفتها بطول صبرها، وهي التي تعاني من عدة أمراض مزمنة.

في مدخل باب العامود، ابتاعتا الكعك المقدسي الساخن وسارتا الهوينى تأكلان الكعك، وتتكئ ميرون على كتف عبير أحيانا، لمعاناتها من عدم التوازن.. وما أجمل إن تجلس في أحد مطاعم السوق، تراقب السياح والأماكن الجميلة حولك، وتتلذذ بروائح الخبز والفلافل والحمص.

اضطرتا لوقف التسكع في شوارع القدس والجلوس في أحد المقاهي، وطلب عصير الرمان حتى تتمكن ميرون من دخول المرحاض، فهي تعاني من مرض السكري المزمن، أجابها صاحب المطعم وهو شاب في الثلاثينات من عمره: لا يوجد مرحاض في هذا المطعم!!

- ميرون: أنا بحاجة ماسة..

فأجاب نافرا: ينظفونه الآن..

وفي مكان آخر، جاء النادل العابس، بعصير الرمان في كأسين غير نظيفين، وثمنهما ضعف ما هو في حيفا، وحتى كمية العصير لا تصل ربع الكمية المطلوبة، وخرجتا من المقهى بخفي حنين، فلم تشربا العصير ولم تدخلا الحمام القذر.

- ميرون: لماذا يعاملون الضيوف هكذا، الأول رفض إدخالنا إلى المرحاض والثاني عابس وقذر؟

لم تدر عبير بماذا تجيب فهي مستاءة أيضًا. وكانت تعتبر نفسها المضيفة وميرون ضيفة عندها، فأجابت مبررة ذلك وبعدم ثقة لما تقول: إنه الاحتلال القابع فوق رؤوسهم.

خيم السكون على رأسيهما وسارتا بملل حتى اقتربتا من بوابة مسجد الأقصى، أمام حاجز عسكري يحرسه ثلاثة رجال شرطة عرب، مسلمون ودروز، من قرى الجليل، عروبتهم ظاهرة للعيان بوضوح، لأن بشرتهم سمراء تطفح بالملامح العربية وهم ذوو عيون واسعة تطيب للنفس، حييتهم عبير قائلة: نحن من حيفا ولكن في الأصل نحن من قرى مجاورة لقراكم، أي نحن جيران. فسألها أحدهم: أأنتما مسلمتان؟

قالت ميرون بتلعثم: نحن عرب، أنا مسيحية وهي مسلمة ونريد زيارة الأقصى.

قال الشرطي بلهجة حادة وجافة: الآن وقت صلاة، ويمكن الدخول للمسلمة فقط.

حاولت عبير جاهدة إقناعهم بأن صديقتها مريضة، وعددت أسماء معارفها من قراهم الثلاثة ولم يشفع لها ذلك.

صاح أحدهم وعيناه تنضحان بالاستياء وقد تجذرت في نفسه عربدة القامعين: اسمع لهجتها مثل لهجتنا، مثل أهل الشمال، تلفظ القاف سليمة وليس همزة!!

وقال الشرطي الآخر وهو في بداية العشرينات من عمره: هل يمكنني أن أسألك سؤال بدون إحراج؟

- تفضل..

- أين ترتيبين حواجبك، فهما جميلين جدا؟

لم تشعر عبير بالراحة لمحاولة الغزل المبتذلة، والمصلون في حالة ذهاب وإياب إلى الأقصى.. وفيما هم على هذه الحال، ظهر شرطي رابع قادم نحوهم، مدجج بالأسلحة والأجهزة اللاسلكية ويبدو أكثر جبروتا منهم وأعلى رتبة، واقترب من ميرون وتعانقا.. فخيمت على الجميع لحظة صمت قطعتها ميرون بقولها: هذا ابن عمتي كريستوفر..

ورحّب كريستوفر بهما، معلنا أمام رجال الشرطة بأنهما ضيوفه، وطلب من صاحب المتجر الموجود قرب الحاجز إعطاءهما ملابس محتشمة. فأخذتا طقمين من الملابس الجديدة، التي ما زالت مغلفة بالنايلون، ولبستا تنورتين واسعتين تنسحبان على الأرض وغطاءين كبيرين على الرأس، لا يبرز منهما إلا الأنف والعيون، وسارتا وراء الشرطي كريستوفر، ونظرات رجال الشرطة على الحاجز تثقب ظهورهما، ربما من الخجل، أم نظرة الضعيف نحو القوي أو إعجابا بحاجبي عبير؟!

شعور عبير الوطني سبب لها الإحراج وهي تسير إلى جانب كريستوفر على مرأى من المصلين، وعندما دخلوا باحة المسجد قال كريستوفر مستهزئا: الآن، عليكما الادعاء بأنكما مسلمتان، لا تخجلا من إسلامكما لمدة نصف ساعة؟

استشاطت عبير غضبا وهي المكبلة بالصمت، ونظرت إليه باستخفاف وهو الشرطي العربي الذي يخدم الاحتلال- قامعا ومقموعاً في آن- وقالت في نفسها: مجبر أخاك لا بطل.. علي أن اصمت حتى أحقق أمنية صديقتي بزيارة الأقصى.

وطلب كريستوفر من حارس مدخل الأقصى العابس، بالسماح لهما بالدخول إلى المسجد الذي يعج بالمصلين. وسارتا أمام المصليات وصولا إلى زاوية في المسجد تكاد تخلو من المصلين وجلستا فيها، وإذا بحارس يأتي إليهما من دون المصليات وقال: هل أديتما صلاة التحية للمسجد؟

فأومأتا برأسيهما بالموافقة.

-الحارس: صليا صلاة الظهر وصلاة الغائب..

ثم عدد صلوات أخرى لم يفقها منها شيئا، فعبير المسلمة كانت آخر صلاة لها، قبل أكثر من ثلاثين عاما مع ابن عمتها علي في مسجد القرية، ليستغفرا الله على إزعاج العجوزين أم راغب وأم عارف.

لم يتركهما الحارس، فلكزت ميرون عبير وقالت: قومي لنقف إلى جانب المصليات ونصلي ما نعرفه، لم توافقها عبير لأنها نسيت الصلاة ومستاءة مما صادفت اليوم، فوقفت وغادرت المسجد ولم يتسن لها مشاهدة المؤذن يقوم بمهمته، أو الاستمتاع بالفن المعماري في المسجد.. خرجت وميرون من ورائها والحارس يناديهما: لا تفوتا الصلاة.

جلستا على عتبة مدخل المسجد لانتعال أحذيتهما، فشاهدتا مسنة بدينة تجر رجلها الملفوفة بالجبص صوب طفل في العاشرة من عمره يجلس على كرسي بلاستيك، وتطلب منه إعارتها الكرسي لتجلس عليه وتؤدي صلاتها، ورغم توسلها، إلا أن الطفل لم يأبه بها، فتوجهت لوالدته بجانبه وهي أيضا لم تكترث بها، فتركتهم المسنة بعد يأس..

انتعلت عبير حذائها على عجل وخرجت مسرعة ، وسمعت ميرون من خلفها تقول: ما هذه التربية!!

فأجابتها عبير دون أن تلتفت إليها: انه الاحتلال الإسرائيلي الآثم.. وهي تشعر بنظرات صديقتها المستاءة من خلفها.

في طريق العودة، توقفتا بقرب حانوت للحلويات، وكانت صدور الفطائر الساخنة على أنواعها تدغدغ الأفواه، فسألت ميرون البائع الشاب: هل هذه الفطائر بجبنه أم حليب؟

- لا هي محشية بالقشطة..

- هل يمكنني تذوق قطعة صغيرة قبل أن اشتري؟

- ادفعي (3) شواقل ثمنها ومن ثم تذوقيها..

فتدخلت عبير قائلة: لا تتذوقي ولا تشتري منه، هيا بنا..

وأشار لهما البائع بيده إشارة مشبعة بالاستهتار قائلا: درب تصد ما ترد..

ميرون: ما بال بائع الحلوى هذا؟

عبير بنبرة عالية: الاحتلال..

فأجابتها ميرون: يقول المثل "لاقيني ولا تغديني".. ما دخل الاحتلال، فهو تاجر وعليه معاملة الزبائن بطريقة لائقة ولبقة..

صمتت عبير ولم تجب وهي تعرف بأن صديقتها محقة رغم بساطتها..

على مقربة من باب العامود، لمحت عبير "رائد" يسير لوحده مسرعا متجها إلى الأقصى للصلاة، فما أن لمحها حتى اقترب منها معانقا بعيونه التي يخالطها النعاس وكادت تسقط أرضا بسبب عناقه الحميم، وتأتأ بعدة كلمات يسألها عن حالها، ثم أكمل طريقه.

فسألتها ميرون: من هذا ولماذا يتكلم بهذه الطريقة غير المفهومة؟

- انه شاب متخلف عقليا، ويرتاد إحدى المؤسسات التي أعمل بها..

- مسكين، لكن تخلفه من الطبيعة وليس من شغل البشر..

نظرت إليها عبير مستفسرة وقالت: ماذا تقصدين؟!

فأجابتها ميرون بسخرية: اقصد ليس بسبب الاحتلال!!

وفيما هما يفارقان أزقة القدس، ترافقهما خشخشة أكياس مقتنيات ميرون.. قالت فجأة: انتظري يا عبير يجب أن اشتري هذه الشماعة، فأولادي يلقون ملابسهم في كل مكان، وحجتهم الدائمة عدم وجود مكان معد لتعليق ملابسهم..