الندم

ثناء محمد كامل أبو صالح*

[email protected]

تهادى صوتها في الظلام عبر فضاء السجن, , يحكي قصتها بمواويل شعبية.. جياشة بالحزن كقيثارة مجروحة.ز وأرهفت الأخريات السمع, فها هي ذي الخرساء الصامتة أبداً خلال النهار تعاود نواحها ليلاً, بكلمات تمس جراحهن التي كادت أن تلتئم, فتنكأها وتسيل دماؤها غزيرة, تلون العالم الضيق حولهن بالحمر القاني .

ليت الغناء يخفف شيئاً من اللهيب الذي تحسه مواراً متأججاً في صدرها, والذي تزيده كلمات المواويل ضراماً..!! لكنها باتت لها أسيرة, ترددها كل ليلة وتتمنى لو أنه يسمعها ليدرك شدة ندمها .

تراه يسمع ؟؟ بلى .. إنه يسمع, ألم يقل الشيخ لها حين زيارته الأخيرة, إن أرواح الموتى تعلم ما يحدث ؟؟

أواه يا أخي.. يا شقيق روحي.. كيف طاوعتني نفسي ففعلتُ ما فعلت ُ؟؟

وأسندت رأسها إلى كفها, وغرقت في بحار الذكريات .

ها هما معاً يتراكضان في حقول القمح الذهبية, يلهوان فوق أكوام التبن, يتراشقان بحبات القمح, فيتعالى صوت أمها مؤنباً : - أميرة ..أنت الأكبر, أنت العاقلة, دعيه وشأنه وهيا تعالي ساعديني .. ويهرع خالد قبلها ملبياً نداء أمه شأنه دائماً ..

والهفي عليها, ترى ما الذي حل بها بعدنا ؟؟

ذكر واحد وثلاث بنات, ذكر واحد كان شمعة الدار التي داستها, فخيم الظلام على من فيها.. ( ليتني ما عرفته, ليتني ما رأيته, هو السبب.. هو السبب ) وتلطم رأسها بقبضتيها, عساها تمحو الذكرى الأليمة.. وأنى لها ذلك..

( آه يا رشيد, لولاك ما صار الذي صار )

ما زالت تذكر يوم قدم إليهم يطلب عملاً, وتردد والدها في اسئجاره..!! كان بهي الطلعة حلو الحديث, متين البنية, طاف القرى عاملاً أجيراً حتى استقر به المقام عندهم, بعد إلحاح أمها إشفاقاً منها على خالد من عناء العمل .

صباح مساء كانت تراه, حتى إذا أقبل الليل اتخذ له مكاناً قريباً ينام فيه, فهو مقطوع من شجرة كما يقول : (أنا لا أهل لي وأنتم أهلي يا عم ..) وأبوها المسكين يزداد ترحيباً وألفة ومودة, حتى صار واحداً من أهل البيت, يدخل ساعة يشاء ويخرج ساعة يشاء .

وهي- صبية السادسة عشرة- تختلس النظرات إلى القوام الممشوق والطلعة البهية, وتسرح في دنيا لها أول وليس لها آخر .

يوم فاتحها بحبه, أحست نفسها تحلق في فضاء رحيب, وعادت إلى الدار شاردة الذهن سارحة النظرات, تهيم في أودية مخملية عابقة بألف طيب وطيب, نداءات أمها المتتالية لم تفلح في إيقاظها من عالمها السحري, ومع ذلك .. لم تلحظ أمها شيئاً !!

( آه يا أم .. أما كنت يوماً في سني ؟؟ أما عشت تلك الأحاسيس والمشاعر ؟؟ أما أحسست بغريزة الأمومة الخطر المحدق بي ؟؟)

ما زالت تذكر تطور علاقتهما في الخفاء, كان يعدها بالزواج حين يملك ما يكفي مهراً لها..فهو غريب وأبوها قد لا يوافق ما لم يكن معه ما يكفي من المال..

وكانت تقنع نفسها بصدقه, وتكبت مخاوفها, إلى أن فاجأهما خالد يوماً معاً, في إحدى غرف الدار الخالية, ولما صرخ بها مهدداً بإخبار الأهل..دفعته بيديها ليقع ويصطدم رأسه بعتبة الغرفة الحجرية, فيغيب عن الوعي ..

ووقفت مذهولة تنقل بصرها بينه وبين رشيد, الذي بادر بحمله جثة هامدة, إلى بئر خربة قديمة, ألقاه فيها وأهال عليه التراب ما استطاع, ثم عاد يغسل آثار الدماء, ويوصيها بكتمان الأمر..فما من أحد يشك فيهما أبداً .

وما زالت تذكر قلق والديها لغيابه, وإخبار الشرطة, والتحقيق.. عدة أيام ما عرفوا فيها طعماً للنوم أو الراحة, وهي .. أشدهم شحوباً وقلقاً واضطراباً, في الليل تحلم به يملأ التراب فمه, يحاول أن يناديها فلا يستطيع.. فتستيقظ مذعورة ..

وفي النهار تتخيله أمامها, وتسمع نداءه بأذنيها, فتكاد تجن.. وأمها المحطمة تذوي أمامها يوماً بعد يوم, حتى انهارت واعترفت بكل شيء.

              

    * عضو رابطة الأدب الإسلامي