قصة مؤلمة في غاية الدقة
قصة مؤلمة في غاية الدقة
أ. تحسين أبو عاصي
– غزة فلسطين –
بسم الله الرحمن الرحيم
من الناس من يطارده الميراث ؛ ليحط على أكتافه وبين ثناياه ، كما يحط الوارث على كوكب الأرض محظوظا سعيدا ، وفي فمه حشوة من الذهب .
ومن الناس من يأتي إلى هذه الدنيا ليرث الفقر والهم والأسى والحزن .
هكذا كان القدر لست من الأطفال ، من أسرة واحدة ، ثلاثة أولاد وثلاث بنات أخوات لهم ، أكبرهم أختهم في الخامسة عشر من العمر ، وأصغرهم طفلة في الخامسة من عمرها .
مرضت الأم ، وعلمت من فوق سرير المستشفى ، أن زوجها تزوج من غيرها ، كانت لحظاتها الأخيرة وهي تحضن أطفالها ، ترسم تراجيديا زمانها ، تُقبّل أطفالها واحدا تلو الآخر ، تنظر إليهم بنظرات كأنها على موعد مع الفراق ، شهقت شهقتها الأخيرة ، وأسلمت الروح إلى بارئها ، إنه الفراق المر الذي لا بد منه .........
لم يصبر الأب على مرض زوجته ، وقبل وفاتها بقليل ، تزوج من فتاة تكبر ابنته الكبرى بثلاث سنوات ، وهو في الخمسين من العمر ، كان ميسور الحال ، قوي البنية ، لا يهمه غير بطنه وجيبه وفرجه وإن احترق غيره ، وكان لا يطيب له إلا أثمن أنواع المخدرات ، والسجائر التي يشعلها مباهاة وافتخارا بين الناس ، ومن العيب عنده بل من المزري ، أن يشتري الفاكهة بالكيلوات ، بل ينبغي شراءها بالعبوات الكبيرة ، وكان يلتهم في كل يوم عند طعام الغداء كيلو ونصف من اللحم الطازج ، أو الأسماك التي كان يذهب بنفسه ويشتريها من حسبة الصيادين طول كل سمكة لا يقل عن المتر ولا تزال فيها الحياة ، بالإضافة إلى طعام عشاء أفخم منه ، كان يرسل سائقا وبشكل خاص إلى مدينة المجدل الفلسطينية القابعة تحت نير الاحتلال الإسرائيلي من أجل أن يشتري صندوقا من الويسكي ، يملك من المال ما لا يعلم له عددا ولا حصرا ، وهو الذي لم يتصدق لحظة في كل حياته على فقير ، ولم يوجه وجهه مرة إلى قبلة لصلاة ، هكذا كان في حقيقة أمره وبعيدا عن المبالغة والتضخيم .
تزوج الأب السعيد ، وطرد أطفاله الست من بيته ، عاش الأطفال يتكففون الناس في بيت صغير يتكون من غرفة واحدة مسقوفة بالصفيح ( صاج الزينقو ) كانت تعود إلى جدتهم لأمهم رحمها الله .
أطفاله يتضورون من الجوع ، ملابسهم ممزقة ، شعورهم هائجة منثّرة ، وهو مع زوجته الجيدة يعيشان أيام العسل ، وتحت ضغط الفاقة ، ذهبت ابنته الكبرى إلى أحد وجهاء المدينة ، ترثي وتشكو حالها وحال إخوتها الأطفال ، لعلها بذلك تنتزع من أبيها ثمن لقيمات ، وبالكاد تمكن الوجيه من أن ينتزع للبنت المسكينة ما يسد رمقهم لعشرة أيام في كل شهر .
بدأ الجيش الإسرائيلي بالهجوم ، وقصفت طائراته ودباباته ، كان الأطفال الست يحتمون في ملجأ قريب من بيتهم ، شأنهم شأن جيرانهم ، وفجأة غادر الجميع الملجأ بإلهام من الله ورحمة ، وبعد أقل من دقيقتين من المغادرة ، كان نصيب الملجأ صاروخا أجهز عليه بأكمله ودمّره تدميرا كاملا .
وتستمر المعاناة ...... ولكن الله للظالمين بالمرصاد .
ماتت الزوجة الثانية بعد سنتين من زواجه منها ، فتزوج بالثالثة بعد أسبوعين من موت الثانية ، كان أهل الثالثة رحماء ، أصرّوا على أن يعود الأطفال إلى حضن الأب ودفء ابنتهم العروس ، وكان لهم ما أرادوه ، وبدأ الأطفال الست حياة جديدة الله أعلم بنهاياتها .
أما الأب فلم يقتنع بما وسّع الله عليه من رزق ، طمع بالمزيد ، صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم : لو كان لابن آدم واديين من ذهب لابتغى ثالثا ولا يملأ عين ابن آدم إلا حفنة من تراب ، أخذ يبحث عن مورد رزق آخر ، ففتح مصنعا ومتجرا للحلويات ، استهلك مبلغا كبيرا من المال ، وكانت نهايته الخسارة الفادحة ، ثم بدأ يستورد الثوم ، صودرت بضاعته وخسر مبلغا كبيرا أيضا ، اشترى بيوتا سكنية وخسر أيضا بها .
كانت حياته مع الزوجة الثالثة شكلا من أشكال العقاب الإلهي ، لم يكن يملك بيتا يأويه ويأوي وأسرته ، أمضى حياته مستأجرا في بيوت الناس ، ولكن زوجته الثالثة استطاعت أن تنتزع منه وبقوة ثمن بيت لها ولأطفالها ، وهي التي كانت قد أنجبت منه بنتين وخمسة من الأولاد ، كتبت البيت باسمها ؛ لتمنع بذلك حق ميراث أبنائه من زوجته الأولى ، ولكن الله لا يظلم أحدا سبحانه .
بدأ رزق الرجل يتآكل ، ثم فقد مصدر رزقه الأساسي الذي كان متنفسا وحياة له ، جفت مصادر ثروته من هنا وهناك ، ولم يعد يملك من المال شيئا أبدا ، أصبح يستجدي تارة ابنه هذا علبة السجائر ، وتارة أخرى ابنه الآخر ، ثم غيره وغيره ، ويطلب من إحدى بناته نوعا من الطعام ، ثم يطلب من الأخرى غيره وهكذا ...... ونسي أنه من حفظ نعمة الله حفظه الله ، ومن شكر الله زاده من فضله .
كان أبناؤه وبناته يكرمونه بما أراد ولا يبخلون عليه بشيء ، كانوا يمنعون عن أنفسهم لذيذ الطعام لأبيهم الذي حرمهم منه من قبل وهم أطفال صغار .
أكرم الله جميع أبناءة وبناته في حياة زوجية وأسرية جيدة ، ورغم ذكريات الماضي المريرة ، والتي تركت بصماتها على نفوسهم ، بحيث لا تُنسى أبدا ، إلا أنهم لن ينسوا والدهم وهو في أشد حالات الفقر والضعف ، إلا ابن له من زوجته الثالثة ، كان حظه في طفولته من الرفاهية والعناية ، ما لا يحظ به كل أطفال زمانه ، كان يلعب بثمار الفاكهة من الكمثري والمانجو والموز وغيرها ، كانها حبات من البنانير او كرات الأطفال ، يقذفها ويدوسها بقدميه كيفما شاء ، وعلى مسمع ومرآى من والده .
كبر الطفل المحظوظ في طفولته ، وأصبح شابا قويا ، وصار من أفسد شباب زمانه وأظلمهم ، اعتدى على جدته العجوز أراد سلبها ثم قتلها ، ومكث في السجن ثلاث سنوات ثم خرج ليهرب إلى خارج وطنه ، ثم عاد ثم هرب ، ثم عاد ثم هرب ، وهو الآن يعيش بينهم في هذه الأيام ، مغرقهم بألاعيبه ومكره في أساليب النصب والاحتيال التي أجادها بامتياز ، كما أجاد الجريمة في عالمها ، اللواط والزنا والسرقة من قبل ، وقد جلب عليهم الويلات والمآسي .
وفجأة أصابه الأب المرض ، وفقد الإحساس بساقيه ، وظهرت عليه أورام خطيرة .
وفي المستشفى زارته إحدى بناته من زوجته الأولى ، فوجدت ساقه تحترق وقد احترق الغطاء الأبيض الذي كان من فوقها ، بتأثير سيجارة كان يشعلها ولم يشعر بالألم ، لأنه فقد من قبل إحساسه بساقيه ، وبعد أيام فارق الحياة .
قال صلى الله عليه وسلم في حديث قدسي عن ربه : يا بني آدم إنها أعمالكم تّرِِد عليكم ، فمن وجد خيرا فاليحمد الله تعالى ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه.