ولهان
إبراهيم عاصي *
لقد أصبح أخيراً ، إحدى التحف المتحركة التي تشد إليها أنظار الغرباء من الناس ، وأنظار السائحين من مختلف الأجناس أما السابلة العاديون ، فقد اعتادوا رؤيته في هذا المكان المزدحم من قلب المدينة الكبيرة .
المارة ، جميع المارة ، حتى الذين اعتادوا من قبل رؤيته ، فضلاً عن السائحين كان لابد لهم ـ عن قصد أو غير قصد ـ من أن يلتفتوا نحوه يتملون فيه ـ وهو يروح ويجيء على طول الشارع مشرقاً ومغرباً ، بحركة رتيبة دائبة دائبة تستمر منذ الضحى حتى المساء .. يتملون فيه شاباً في مقتبل العمر أرسل لحيته بلا نظام ، وشاربيه بلا تشذيب . له رأس نظيف تماماً فقد حلق بالموسى ، وأجفان منتوفة حتى الجذور! تلوح من خلف عينيه سيماء وداعة وطيبة وهدوء .. ينتعل حذاء نسائياً خفيفاً ، ويرتدي من أعلى قميصاً بلا أكمام ألوانه صارخة ومتنوعة ، ويلبس من أسفل (تنورة) هي أشبه ما تكون بتنانير الأسكوتلانديين من نافخي القرب الموسيقية ، ولكنها أشد منها قصراً .
كثيرون حسبوه لأول وهلة (خنفوشاً) ثم تراجعوا عن ظنهم ، عندما انتبهوا إلى أنه بلا شعر رأس ! وكثيرون ظنوه بادئ الأمر (بوبياً) أو (هيبياً) ، وما عتموا أن يغيروا نظرتهم ، عندما لاحظوا أنه لا يتعاطى الغرام علانية مع أية أنثى تصاحبه أو ذكر! وأنه لا أثر لوهج الحشيش والأفيون ، يبدو زيغاً أبله في عينيه !.
لم يكن ليؤذي أحداً أو يعتدي على أحد ، لقد ألفاه الجميع لغزاً محيراً ، وأحجية بالغة التعقيد ، صعبة التفسير!.
وبسبب وداعته ، وعدم ممارسته للإيذاء أصبح موضع إشفاق واهتمام جميع أصحاب المحال والباعة من سكان الشارع ، باستثناء باعة اللوازم النسائية (النوفوتيه) . فهؤلاء فقط ، هم الذين كانوا يتضايقون منه ، ويتمنون إزالته ، ويدفعون من أجل ذلك الفدية العظيمة .. أما السبب فهو في منتهى البساطة .. لقد كان صاحبنا واسمه " الولهان " ، إذ هكذا اصطلح أهل المحلة على تسميته .. لقد كان مرعباً منفراً للنساء والفتيات ، وبخاصة أولئك اللواتي كن يمررن من جانبه شبه عاريات ، وقد تسلخن من ثيابهن إلا ما قل منها ودل .. كان لحظة تمر به واحدة من هؤلاء ، يقفز هكذا .. قفزة واحدة في الهواء ـ كما يصنع المهر البطر تماماً ـ ويصفق إلى الأعلى بكلتا يديه صفقة واحدة حادة ، تصاحبها صرخة غجرية مفزعة ! فتنكمش عند ذلك أطراف تنورته إلى الأعلى بلا تكلف ، ويرى حينئذ أنه ذكر فعلاً دون أي شك لمتشكك فيه !.. وسرعان ما يتابع خطوه الوئيد الوقور، وتند صرخة عالية عن الأنثى العابرة ، وتهيم على وجهها مذعورة مهرولة .. من هنا كان الولهان موضع سخط باعة اللوازم النسائية ، إذ أنه كان سبباً في (تطفيش) الزبونات عنهم .
وعلى الرصيف المقابل وقف رجل آخر ـ ولكنه عادي وثابت في مكانه ـ لاحظت انه يشرح للفضوليين من المارة أمثالي الذين كان جمعهم في التئام وانفضاض مستمرين . لاحظت أنه يشرح لهم أشياء تتعلق بهذا الإنسان النشاز، وقد ارتسمت لهذا الرجل الشارح في ذهني ، صورة المرشد السياحي واقفاً في متحف ما أو مبنى أثري .
هرعت إليه ، أصخت السمع لكلامه ، وفتحت كلتا أذني . كان مرشدنا قد بدأ لتوه يستأنف قص قصة الولهان ـ التي أصبحت محفوظة مكرورة لديه ـ على (الشلة) التي اجتمعت عليه قبل قليل . قال المرشد :
" الولهان لقب أطلقه عليه أهل الشارع هذا .. اسمه الحقيقي (راشد سليم) كان طالباً جامعياً حتى سنتين خلتا .. ومات أبوه وترك له أماً وجدة وأربعة أخوة ذكوراً وإناثاً .. هو الوحيد القادر على الكسب فيهم .. قطع دراسته الجامعية وتوظف في إحدى المؤسسات الرسمية .. أراد أن يطعم الأفواه الفاغرة في البيت ، إذ لم يخلف لهم أبوهم من حطام الدنيا أي شيء ، فقد كان هو الآخر موظفاً ". ثم تابع المرشد يقول :
" إنه عصامي مائة في المائة ، جاد بريء ، رقيق الحس والمشاعر. لا يعرف المواربة . لا يحب لغة المجاز ولا يؤمن بأدب المجاملة والمداراة . إنه يحب دائماً أن يدخل البيوت من أبوابها ودون مقدمات أو تمهيدات .. مكث في الوظيفة أقل من سنة ثم سرحوه ., لأنه لم يكن مغلقاً الباب بإحكام .. نعم هكذا روي لي ، وهكذا يروي لكم لو سألتموه وتنازل فأجابكم !".
واستمر المرشد موضحاً :
" إنه حاقد ، حانق على جميع بني جنسه من رجال العصر!. إنهم كلهم في نظره (جمال مستنوقة) أو (سلاحف مقلوبة على ظهورها) في انتظار قدم ما من أية أنثى تتفضل عليها بركلة نسائية تعيدها مستقرة على بطونها كيما تتابع الدبيب من جديد !.
إنه باختصار يصدر عن حقد فلسفي ـ وبالمناسبة فإنه كان يدرس الفلسفة قبل أن يقطع دراسته ، وإنه رفيق صباي ودراستي وابن حارتي ..
لقد أطلق على نفسه لقب " المخلِّص " ،وقال لي قبل أن يتخذ من نفسه (مخلِّصاً) لبني جنسه الرجال ، وينزل إلى الشارع في هذ السحنة :
" لو أحكمت إغلاق الباب لما سرحوني .. كنت أقبلها ، أقبلها فقط ، عندما دخل علينا فجأة أحد المراجعين . انتفضت ساعتها كذئبة مذعورة تتظاهر بالعفة ، وتصطنع موقف المقهورة المقسورة ؛ ثم ندت عنها صرخة حسبها المراجع صرخة استغاثة وكبرياء محطمة ، وشرف منتهك ، فهرع إلى المدير يبلغه الحادث ؟!
(أنا) قذف بي إلى الشارع . لماذا ؟ حفاظاً على السمعة الأخلاقية للدائرة على اعتبار أن الشخص الذي رأى ما رأى هو غريب عن الدائرة وليس من أهلها !.
(هي) رقيت إلى سكرتيرة خاصة إضافية للسيد المدير، الذي ليس بأبله مثلي ، فهو لا ينسى إحكام غلق الباب عند اللزوم ".
وفي أعقاب ذلك لفظته جميع أبواب الدوائر والمؤسسات ، فأصبح كما تشاهدون ، أعني أنه أصبح (مخلصاً) !.
لم أطق صبراً على متابعة الاستماع ، فقد تواردت على ذهني عشرات الأسئلة .. غدوت في بحران من الدهشة والاستغراب .. انطلقت أسأل :
ـ وما علاقة جنونه الراهن بالحادث الذي رويته لنا يا أخ ؟ بل ما صلة الجنون هذا بقصة التسريح ؟ ! وهل أبواب الرزق انحصرت بالوظيفة ، والوظيفة وحدها ؟!
فأجابني المرشد دهشاً :
ـ ومن قال إنه مجنون ؟ إنه شاب عاقل موزون ، عذب الحديث لو حاولته معه .
فقلت بشيء من السخرية :
ـ إذا لم يكن هذا الذي نرى جنوناً ، فكيف يكون الجنون إذاً ؟ قال بلغة الواثق :
ـ إنه فيلسوف وليس بمجنون ، بل إنه صاحب مدرسة ورائد إصلاح اجتماعي ضخم . قلت :
ـ وهل الفلسفة جنون في رأيك أو رأيه ؟ قال :
ـ نعم ـ يا مستفهم ـ قد تكون الفلسفة ضرباً من الجنون في كثير من الأحيان ، ولكنه جنون هادف ينبثق عن غور عميق من الوعي والتفكير والإدراك . قلت :
ـ يبدو لي كأنك في طريقك لأن تصير فيلسوفاً مثله !. قال :
ـ بل أنا أحد تلاميذه ، وعما قريب سيسعدني أن أصير مثله . وربما تلحقنا أنت ، ويلحق بنا كثيرون من أشباهك ! وليكن معلوماً لديكم جميعاً يا سادة أنني لم أقف هنا إلا للتبشير بآراء المعلم وتفسير فلسفاته .
قلت باستخفاف :
ـ هات بشرنا إذاً ، وقل لنا ما رسالة صاحبك ؟ قال :
ـ رسالته : (تحرير الرجل) المعاصر من استعمار المرأة المعاصرة التي باتت تتصرف بمقادير الرجال على نحو لم يسبق له مثيل في القرون الغابرة !.
ويرى (المخلص) أن العالم كله يتحرك الآن بإيعازاتها : إنها هي التي ترفع وتضع . تسرح وتعين . تأسر وتفك . تتحدى وتستذل . تعلن الحروب وتوقفها . والضحايا دائماً هم الرجال !. ولهذا كله يجب أن توقف عند حد . قلت بصبر نافذ :
ـ وهل يحررنا صاحبك ـ نحن الرجال ـ ببلوزته النسائية (الحفر) ؟! قال :
ـ وما وجه الغرابة في ذلك ؟ إنك لو سألته هذا السؤال لأجابك :
" إن الكشف عن السواعد هو أصلاً حقنا نحن في المعامل ، وعلى أرصفة الموانئ ، وفي المناجم والحقول وغيرها .. فلماذا لا نستعيد هذا الحق ؟" قلت :
ـ وهل شعر الرأس المحلوق بالموسى ؟ والأجفان المنتوفة بأكملها قال :
ـ أليس من حقنا أيضاً أن نبتدع بعض التقليعات ، كي نثبت لهن أننا نحن الآخرون نستطيع أن نقوم بعمليات مسخ وتزييف لرؤوسنا ووجوهنا ؟!
الشعر المحلوق مقابل شعورهن المستعارة .. أجفاننا الملغاة قد تكون الآن شيئاً مستهجناً ، ولكنكم عما قريب ستعتادون عليها فترونها مألوفة وجميلة ، وجديرة بأن تتخذ أنموذجاً بديعاً يحتذى في (ديكور) الوجه !. ولا سيما إذا روجت لها أفلام السينما ومرايا التلفزيون والمجلات الفنية . وهذا الاعتياد نظير اعتيادكم رؤية أهدابهن البلاستيكية ، وحواجبهن الشيطانية المرسومة بأناقة إلى أعلى كأذناب العقارب ، فضلاً عن كدمات التظليل الزرق والسود والخضر والمذنبات الكحلية . قلت :
ـ وماذا عن تنورته القصيرة التي يتخطر فيها ، وحذائه النسائي الرشيق ؟! قال :
ـ إنه الرد المباشر على استراقهن البنطال منا ، والجزمة من فلاحينا وخفراء الجمارك . قلت :
ـ ولكن يظل هناك لغز هذه القفزات الهوائية الحصانية البطرة يا صاحبي ؟!. قال :
ـ أما هذه فأفضل أن تسأله عنها مباشرة ، لأنني لم أسأله عنها بعد ، وهي بعلمي آخر ما ابتدع من حركات . قلت :
ـ وهل نستطيع الدنو منه دون أن يلحق بنا أذى ؟ قال :
ـ يبدو أنك لا تزال تستريب في عقل الرجل ، وتشك في كلامي ؟! قلت :
ـ امش أمامنا إذاً . قال :
ـ لابد من ذلك أصلاً ، وإذا لم يجدني بينكم فإنه يترفع حتى عن الالتفات إليكم ، لأنكم بنظره بعض القطيع الرجالي المستعمر المسحوق . إنه يتكرم بالحديث على مريديه فقط ، أو من هم في طريقهم لأن يكونوا كذلك .
كان (المخلِّص) يروح ويغدو ، أو يثب ويقفز كلما مرت به عارية .. دنونا منه ـ وبكامل حشدنا ـ اعترضنا طريقه ، هش لنا ثم وقف بوقار. وقبل أن نسأله شيئاً قال : " كل ما حدثكم به (ولد فكري) صحيح . خذوه منه عني ، ولكم المجد على الأرض ، وقريباً رجالاً تصبحون ".
قلت ، وقد استجمعت كل ما يثيره الفضول ـ عادة من اهتمامات :
ـ شيء واحد لم يفسره لنا ولد فكركم .. فلماذا هذا القفز هكذا في الهواء ؟!.
هز رأسه ببطء . ابتسم بتثاقل . أدار عينيه كلتيهما نصف دورة نحو اليمين ، ومثلها نحو اليسار، ثم صوبهما فجأة إلى وجهي ـ من دون الجمع الغفير حوله ـ وأجابني بوقار :
ـ إنه الرد على التحدي بلا مواربة يا أيها الباحث عن البديهيات . قلت :
ـ هل لكم أن تزوديني توضيحاً ؟ قال :
ـ أنا عندما قبلت تحدي زميلتي في الوظيفة بشكل مهذب ـ كما تقولون ـ بقبلة ، طردت من الوظيفة .. قذف بي إلى الجحيم .. إن التي تريك لحمها حتى أصول الفذين في الدائرة أو الحديقة أو الشارع وفي كل مكان ، هي مخلوقة تتحدى رجولتك ، تقتحم عليك أعصابك وهدوء نفسك ، إنها تستثير بهيميتك وحيوانيتك .. إنها تطعنك في أحشائك . إنها ببساطة تعرض عليك ما عندها فاعرض عليها ما عندك ! نعم اعرضه بلا مواربة ، بالطريقة الغابية كما تفعل هي بالتمام .
فهل عرفت لماذا قفزاتي ؟ ولماذا أفخاذي العارية ؟. ليست هي وحدها التي تفعل ما تريد .. نحن أيضاً نستطيع أن نتحدى ونفعل ما نريد .
قلت : وماذا بعد أن نرد على هذا التحدي بهذا الشكل يا مخلّص ؟
قال : " بعد ذلك لا يبقى أحد منكم غيلماً مقلوباً على قفاه .. إنكم إن تتبعوني في هذه المدينة ، وتصيروا جميعاً أولاد فكري .. تتحرروا في ظرف ايام .. ستكتسي حواء ، سوف تنسحب إلى مواقعها الطبيعية بلا مسخ وبلا تشويه وتزييف .. سوف يتوقف دورها جنساً مخلصاً .. سوف تلقي سلاحها المسموم بصغار واستخذاء ..
وعندها .. عندها لن يكون هناك مزيد من المسرحين ، والمأسورين ، والمفكوكين ، والزناة ، والممزقة أعصابهم تعففاً وكبتاً أو خوفاً من الرب صاحب الملكوت ..
عندها يصير لكم المجد على الأرض ، ورجالاً تودون لا مجرد ذكران تظلون تسيرون وتخصبون .
عندها تنبت أجفانكم من جديد وتفرغ شعورهم فتزهو منكم الرؤوس ..
عندها تزهو شواربكم وتورق حتى تصير عرائش ، وترجع إليكم بناطيلكم وجزماتكم ..
عندها ينبت فيكم من الأعماق ، أصوات رجالية خشنة ، ومروءات نائمة ، وعزائم مصلوبة . وذكورة مغصوبة ، وحق هضيم ".
* أديب سوري معتقل منذ عام 1979