الزيارة الرابعة
الزيارة الرابعة
فاطمة محمد أديب الصالح
وفي العام التاسعَ عشر، تقول الأسطورة أنك تتعلمين كيف يغدو ابتلاع الدمع أليق بك وبه وبهم، وأنك تنجحين في تحويل أسباب الدمع إلى حركة مفيدة، والمضيف النحيل شديد التهذيب في شقته التي تبكي الهجر عارية الجدران؛ لازالت عيناه ترسلان بعض الأسئلة الدهِشة أو المذعورة، يضع كفيه بين ساقيه.. يحاول بضم كتفيه ألا يشغل من الفضاء حوله أكثر مما يحتاج جسده، يكرر أن كل شيء على مايرام، لم نستطع أن نحصل منه على أكثر من أي ممن زرناهم من سجناء تدمر الذين أفرج عنهم قبل شهر: سجيننا( مثل الآخرين) بخير، لكنه قلق لانقطاع زيارتكم، ويوصيكم بإحضار نظارة وبخاخ الربو.
نظارة، نظارة.. يعني صاروا يقرؤون، هذا خبر عظيم..يعني هرم وتعبت عيناه.. طبعا أليست الأنوار الشاحبة أربعاً وعشرين ساعة، طبعاً ألم يبكوا ويحدقوا في دنيا مختصرة فقيرة لا تتغير.. أضجرت أعينهم من مهامها.. ألم يتأملوا عذابات بعضهم وبعض.. وتحولات بعضهم وبعض، الانكسار والسقوط في هاوية اللا معنى .. الله معهم ماما، والله دائماً أخبار أبي مشجعة..
كأنا فرحنا كثيراً بخبر النظارة، ليس لأن سجيننا صار يقرأ فحسب؛ بل لأنا سنحمل إليه شيئاً يحتاجه فعلاً، لا يقوم على تخمين ولا تقليد.
وبعد ثلاث زيارات إلى تدمر تكتسبين خبرة طيبة، وتغدو بعض الأعمال رتيبة مألوفة: المرور على الصيدلية، وتبلغ بنا الجرأة أحياناً أن نقول: أخي.. نريد بعض الأدوية لسجين منذ أربع خمس ست تسع عشرة سنة.. ونجد التعاطف والنصح بصوت يشبه الهمس: هذا للسعال وهذا للالتهابات وهذه فيتامينات وهذه مسكّنات، ونضيف نحن معجون الأسنان والفراشي..
ومن السمّان الذي يكاد يبيع كل شيء نشتري الحليب المجفف وموادَّ غسيل وتنظيف وسكرا( ويجب خلط الحليب بالسكر حتى لايصادره أو يسرقه العسكر، هكذا قال لنا المجربون منذ الزيارة الأولى) .
من البيت سنحمل كل ما تبقى من ملابسه القديمة وبطانية أخرى ومناشف وجوارب سميكة، ولو اضطررنا إلى شراء جديد فيجب أن نغسله وننزع أوراقه، ربما شكُّوا أنا نكتب عليها للسجين رسالة حزن أو حب أو قلق، وغيرَ ذلك: قد يطمعون بالجديد فلا يتركونه لصاحبه..
هذه المرة نضيف النظارات، سنأخذ اثنتين بدرجتين مختلفتين فنحن لا نعرف كم خسر من بصره..
لا تنسوا هُوياتكم، لاتأخذوا طعاماً مطبوخاً، لكن هذه الزيارة بواسطة، فلنجرب حمل الحلوى.. والدنيا عيد.
مع أنهم في الزيارة الأولى أعادوا التمر والعسل.
وصاحب الميكروباص الآدمي الطيب صار يعرفنا، يقص علينا قصصه في الذهاب، ويواسينا في الإياب، لم نغيره منذ الزيارة الأولى قبل ست سنين.. يصل إلى باب بنايتنا في السادسة والنصف.. توقيت يخفف عنك فضول العابرين، ويمدك بضع وقفات على الطريق.. نقاط أمنية.. ينزل يدسّ شيئاً في يد شرطي ثم يعود: خَطِيَّة لم يفطر بعد، تلوح الأسوار حوالي العاشرة والنصف.
إلى حد ما تحفظين الطريق بعد ثلاث زيارات، سهوب وتلال وجبال.. وتراب صامت سادر.. قد تعلوه بعض الأعشاب، لا تثير لوحات الطبيعة الفقيرة التي ترافق هذه الرحلة الخرافية وداً ولا نفوراً ولا فضولا..تتدخل الغيوم أحياناً فتبرز الجبال في هيئات قد تلفت انتباهك، وفي أحيان أقل تخضر الأرض فتأنسين وتحسين أنها تكرمك وتخفف عنك، تلتوي الطريق وتعلو وتنخفض لا تكتم عمرها ولا حالها..تتأملين البيوت القميئة الكئيبة فتحمدين الله وتتمنَّين لأهلها حياة أجمل، تراقبين قطار الفوسفات يقطع الصحراء بحزن واعتذار، مرة من زمان سبق زمان الأمومة والسجون، ركبت قطاراً من دمشق إلى الزبداني، شق أمواجاً من الخضرة.. وألواناً من العيون الجميلة الضاحكة التي تترصد ركاب القطار برشاش من الماء.. ليصخب الجميع.. ويفرحوا..لم تكوني تعرفين تدمر إلا في كتاب التاريخ الأسمر الورق.. صوره لا تقول شيئاً، سطوره تقول: امرأة كانت ملكة.. حكمت الرجال، لعل طوابع البريد كانت أفصح في وصف تدمر.
من هنا طريق العراق، إلى نقطة أبو الشامات على حدودنا معها.. وما معنى هذا، تمنينا كثيراً أن نزور العراق.. لكنها البلد الوحيد المستثنى على جوازاتنا.. تكتب أسماء البلاد المسموح بزيارتها على صفحة، غالباَ بخط غاضب ضجر، وينطلق سهم بعد عبارة البلاد العربية متجهاً إلى عبارة: عدا العراق.. سقى الله أيام التمثيليات العراقية التي غزت شاشتنا مدة وبكثافة، فأحببناها.. تعلمنا العراقي..
تبرز رؤوس النخيل بالتدريج.. بساتين النخيل على يمينك، ثم وعلى الضفة الأخرى للطريق المهترئ ترين الآثار.. وكل مرة يقال لك: تلك بقايا قصر نوبيا هناك، على تلك التلة.. (طظ) بعد زيارتنا الأولى أصر قريبنا الحنون الذي لابد أن يرافقنا كل مرة، ولا يدخل معنا بالطبع، على أن نتجول بين الآثار وبين أشجار النخيل، لعل الطبيعة تمتص هذه الصدمة..لكنا لم نكفّ عن البكاء.
لا أصدق أنا حصلنا على زيارة في شهر، ودون تقديم طلب بالبريد.. الله يجزيهم الخير أولاد الحلال(لعلهم).. الظاهر أنا فعلاً نثير الشفقة ياماما.. عمو أبو عامر تدخّل أخيرا، بعد تسعة عشر عاماً تدخّل.
الحمد لله .. الحمد لله يا بنتي.
بعد قليل ننعطف ندخل البلدة، نمرّ على مركز ما، ننعطف يميناً، نجد لافتة السجن نستمر.. تلوح الأسوار ونقاط الحراسة ورؤوس شجر.. نتوقف عند باب البيت نفسه، نستأذن في دخول الحمام.. نجد البلاط يشطف وينشف.. ونجد دورة المياه الإسمنتية نظيفة.. ونقرأ في عيني صاحبة البيت بلباسها القروي ووجها الملوح ما نريد: لكم سجين هنا، نعم.. والله نحن أيضا فلان قريبنا سجن هنا، عسكري.. نشكرها في سرنا أكثر كثيراً مما جهرنا به.
هذه المرة كان الزوار كثراً على غير ما رأيت قبل ثلاث سنوات.. ينتشرون في العراء البارد مثل أي كانون.. قرويون وقرويات وبدو وأهل مدن.. انتشروا دون نظام باتجاه السجن.. وأعينهم معلقة بالسور وبالبوابة وبكل سيارة أو قادم أو حركة تبدأ من هناك.. كأن القلوب تمارس نوعاً من البوح والشكوى قبل أن تنعم العيون بالرؤية، نقترب راجلين لننضم إليهم، ثمة مناديل تتجه إلى عيون النساء.. ثمة وجوه تتقبض وتحمر وتشيح بالبصر عن الفضوليين. ثمة رجل يهدئ امرأة أقعت فوق التراب، وامرأة تهدئ رجلاً يتكئ بعمره على كتفها، ثمة كهلة تحيط بذراعيها كتفي صبية، كنا مثلهم..
يركض عسكري بقبعة حمراء، لقد صار بعمر الأولاد، نضر وسيم مذعور يأخذ الهويات.. يطلب عدم الاقتراب.. والانتظار، وكأنا لا نتقن الانتظار.
ألتصق بالبنت وطفلتها، قطرة من عزاء تعيد بصرك إلى السماء من جديد:
- يا حبيبتي.. هذه الطفلة دخلت التاريخ..
تبتسم ابنتي التي تزداد عيناها دفئاً بازدياد حزنها، وتضم وليدتها التي لم تكمل شهرين، رجوتها كثيراً ألا تحضر..تقترب بوجهها منها حتى تكاد تخفيه في الغطاء الأبيض، لعلها تبكي..لعلها تجدد اكتشافها سحر عطاء أعاد الألق إلى شبابها، لتكتشفْ ولتتخففْ حبة القلب هذه من أحزان عرفتها قبل ما اعتدنا أنه الأوان.. وكأن للظلم منهجنا واعتياداتنا! علقت دون أن ترفع رأسها:
- غداً نحكي لها ونقول لها أنت بطلة.
بعد اجتياز حاجز الحراسة يكون التفتيش على يسارك..ينقلب متاع السجين وينفرط نظامه ثم يركم في البطانية ويلف ليتحول إلى حمل لا شكل له، يحمله الابن أو الأخ، يتاح للنساء ترف توفير طاقتهن من أجل الدقائق القادمات، ننطلق إذن بأقدام وركب صارت أثبت نحو بوابة الباحة التي تقودنا إلى غرفة صغيرة، يكاد يزيدها عتمة مصباح شاحب مغطى بالغبار وخيوط العناكب السجينة، الأرض والجدران قبيحة بلالون.. ووراء حاجزين بينهما ما يقارب المترين نقف... أمامنا حاجز من المعدن المخضر بفتحات مربعة صغيرة..وأمام السجين حاجز بقضبان أكثر تباعداً..
من باب منخفض صغير من جهة حاجزه سيدخل مطأطئ الرأس بعد دقائق قليلة، تبحث فيها الألسن عن لعاب فلا تجد، وتبحث فيها الدموع عن مفرّ فتُكَفُّ بقسوة، هذا عهد ألا نبكي أمامه، دعونا نفعل في البيت ما نشاء.
سيدخلونه شبه محمول بين ذراعي عسكريين لا يغادران .. ستفاجئين بشحوبه الرمادي مثل كل مرة، بصغر حجمه بتهذيبه وانكساره بأسئلته التي لا تتغير وأخباره التي لا تتغير.. هذه المرة سنعتذر عن اللذين لم يحضرا لأنهما مسافران.. وسنعتذر عن التأخير لأن أذون الزيارات توقفت.. سنقدم المال المباح ولا نتفوه إلا بالكلام المباح..ثمة أخبار طيبة.. هذه حفيدتك الأولى.. بنتنا الأخرى في الجامعة.. الولد أنهى الثانوية.. أشياء كثيرة يمكن أن تحدث في ثلاث سنين، وهو بخير ولا ينقصه شيء أبداً .. وليس علينا إلا تبليغ السلامات والتطمينات..
تسلق العسكري حاجزنا وناول النظارتين عسكرياً آخر دخل الممر الفاصل بيننا من باب في الحاجز الآخر.. حركة غريبة تتكرر كل مرة، رغم إمكانية استخدام الباب الذي أدخل منه السجين.
جرب سجيننا النظارة الأولى.. لا، الثانية لابأس ليتها أكثر.. طلب من المال أكثر مما توقعنا ومما حملنا، هل أحضرتم بخاخ الربو..
كان ثمة فرصة للزهو هذه المرة بهذا الإنجاز: زيارة قفزت فوق القوانين وفوق سجن القابون في دمشق (كنت أشعر بالامتنان أني لم أر وجه ذلك الضابط الذي كان يسلمني الإذن بعد أداء عشر مهام يبدؤها لدى سقوطي في مقعد يواجه مكتبه).
وكان ثمة فرصة أكبر لتبادل العبارات إذ سمحوا بوقت إضافي، لكنا لم نجد كلاماً( كأنما تبرمجنا على أربع عشرة دقيقة).
كان..
لكنا نسينا بخاخ الربو.
تبخرت ذابت خجلت نسمة فرح راودتنا ونحن نتخيل أنا سندخل على قلبه نوعاً أو قدراً أو محاولة للسرور.
وطريق العودة أطول دائماً..لا داعي لانتهائه ولا نرى منه شيئاً.