على المغتسل

إبراهيم عاصي *

سرت همهمة في الناس : " قدموه الآن إلى الغسل .. رفعوه على المغتسل !." ازداد التوجع ، وتصاعد النواح ، وارتفعت عالية أصوات المفجوعين .. اللاطمون واللاطمات كادوا يقضون على أنفسهم من كثرة ما اشتغلوا !. موجة الحزن هذه ، غمرت الجميع أصالة أو بالعدوى !

اعترض أحد الأقارب قائلاً : لماذا العجلة في تغسيله ، ولما يمض على وفاته سوى بضع ساعات ؟ إن كثيرين من أحبائه وأصحابه لم يصلوا بعد .أما الآخرون فقد أحاطوا بغرفة المغتسل وكادوا يقتحمونها من نوافذها وأبوابها معلوين نادبين ، يتقطعون من لوعة واسى ! على حين كان الورثة الشرعيون منزوين في غرفة من الدار جانبية ، أحكم إغلاقها ، وقد غصت ـ على سعتها ـ بالمتاع والأثاث المكوم .

الأموال النقدية كان قد تم اقتسامها بقدر محدود من الملاسنة والمشاتمة . الخلاف يدور الآن حول بعض الأشياء العينية ، وبشكل خاص حول سجادة نفيسة . فكل واحد منهم يريد أن يحظى بها لنفسه . كاد الخلاف ينتهي بالتحام بين الأطراف المعنية وأوشكت الأيدي تشتبك لتلطم الوجوه أو تصفع الأقفية ! وقاربت الأرجل تأخذ حقها ـ ركلاً ورفساً ـ من الأعجاز والبطون ! إلا أن القضية ظلت في نطاق التراشق بالسباب والشتائم ، وفي حيز الملاعنة والتحدي اللساني ، إذ ظهر من القوم ـ في هذه اللحظات الحاسمة ـ رجل رشيد مفكر، فاقترح تقطيع السجادة إلى ثلاث قطع متساوية ، ثم يخير الوارث بين قطعة منها وبين ساعة المرحوم الذهبية ، أو نظارته ذات الإطار البلاتيني الأثرية ، أو إحدى ثريات الكريستال الألمانية !

أما الديوان ، فإن أحداً من المدينين لم يعترف لهم ولو بقرش واحد ! بل إن جميع المدينين تقدموا ببراءات ذمة تحمل تواقيع المرحوم !. على أنه كان مما يلفت النظر فيها ؛ أنه ما من توقيع يشابه أخاه من بينها جميعاً ؟!.

رحم الله (أبو الخير) لقد مات ، مات ذلك الرجل الهرم ، وجيه المحلة ، ثري القوم ، صاحب الأموال الطائلة والذهب المخزون ، الذي أنفق من أجله عمره يجمعه من كل وجه ، ويحصله عن أي طريق ! ولقد نعي قبل قليل من مكبرات الصوت ، وعلى أوراق فاخرة لصقت على كل جدار. مات أبو الخير بالسكتة القلبية ..

تقاطر الناس أفواجاً أفواجاً إلى بيته الكبير. البيت على سعته غص بالوافدين منذ اللحظات الأولى لإعلان النبأ المشؤوم !

كان فيهم الفقراء الذين حضروا أملاً بالعطاء السخي يجود به الورثة المحظوظون ، وطالما منعهم إياه السيد المرحوم !

وكان فيهم الأغنياء ، الذين يصلهم بالمغفور له نسب الثراء ، أو قربى المصاهرة ، أو وشيجة الرحم.

وكان فيهم من حضر مجاملة ونفاقاً ، أو حضر فضولاً وتفرجاً رغبة منه في أن يرى كيف يبكى على الموتى الأكابر من المترفين ، وكيف يشيعون ؟!

غرفات البيت ، ممراته ، ردهاته ، صالاته ، مداخله ومخارجه .. كلها امتلأت بالحزانى ، بالمفجوعين ، وبالمعزين رجالاً ونساءً .

الدموع كانت تنسكب غزيرة حارة أو باردة .. أزمة خانقة بمحارم الورق باتت وشيكة الوقوع ! أصوات النحيب ، وأحياناً صيحات التفجع كانت لا تني تتناوب صاكة الأسماع ومعتصرة القلوب ! وكان أعلاها وأوقعها رهبة في النفوس ، تلك التي كانت تصدر عن أقاربه وذويه .

وبينما الناس في هذه الغمرة الغاشية ، إذا بصوت المغسل يصيح من الداخل مرتعشاً مرتعداً : عا .. عا .. س أبو الخير.. عاش يا ناس .. أبشروا .. والله عاش !

الذين كانوا قرب باب غرفة المغتسل أو على نوافذها ، لاذوا بالفرار خوفاً من هول الواقعة وهلعاً ! وكيف لا يفرون ! وقد رأوا المرحوم بأعين رؤوسهم وأمهات عيونهم يتحرك ثم يرفع رأسه فوق الطاولة ، لدى ثاني طاسة من الماء الحار تصب على بدنه ؟! لقد عاش أبو الخير، ولقد قام حقاً وصدقاً !!!

*  *  *

الزغاريد ، الابتسامات ، دموع الفرح ، رقص الطرب ، قفزات النشوة ، صيحات المفاجأة .. كل ذلك لم أجد له أي أثر في وجه أحد ، أو على عينيه ، أو في فمه .. ولا سيما أبنائه وأقاربه المقربين !!.

وحين شرع الناس ينفضون ، وسط موج اللغط والفوضى والهرج ، سمعت من يقول :

ـ مساكين أبناؤه وورثته ومدينوه ، لقد هالتهم كارثة رجوع الحياة إليه ، فخرسوا بعد صياح ونواح ، وتبددت آمالهم هباء بعدما حلقوا إلى السماء ! وسمعت بعضاً من الدراويش يقولون :

ـ الأغنياء لا يموتون .. الأغنياء يرشون عزرائيل !.

إلا أن أوقع ما ظل يتردد في أذني صداه ، كان آخر آية تلاها مقرئ القرآن لحظة انفضاض الجمع ، إنها قوله تعالى في وصف بني البشر : [وتأكلون التراث أكلاً لماً وتحبون المال حباً جماً] .

              

* أديب سوري معتقل منذ عام 1979