مخاض عاقر..
مخاض عاقر..
عبد الله لالي
بسكرة الجزائر
صرير المفتاح في قفل الباب أيقضها من غفوتها ،قامت مهرولة نحو البهو .. انفتح الباب بهدوء وأطل من خلفه بوجهه الشاحب ، مقطب الجبين ، مزموم الشفتين مثقل الكاهل بهم السنين وتعاقب الأيام الصامتة التي انتظر فيها صرخة مولود تغير من هذا الجو الراكد الذي يجثم على أنفاسه فيكاد يقطعها ، ألقى تحيته بفتور ، ردت عليه بابتسامة عريضة شحنت فيها كل ما لديها من حنان وحرارة عاطفة.
التفت خلفه وسحبت المعطف بلمسات حانية من على كتفيه ،حاول أن يصطنع الفرح .. رسم ابتسامة مقتضبة على شفتيه المنكمشتين ، أدركت ما يعانيه ، بل هي تدرك ذلك منذ ردح من الزمن.. ضميرها يعذبها ، يأتيها كالأسواط الملتهبة صوتا رهيبا :
- أيتها العاقر لما تمسكين بتلابيبه ؟ دعيه يتحرر يخرج إلى دائرة النور ، يسمع لثغة صغير يخرج من صلبه ..
تلملم ريقها الناضب من بين تجاويف فمها ، تزدرده بمرارة تحاول تبرئة نفسها أمام ضميرها :
- وما ذنبي أنا وما حيلتي..؟ لقد قلت له طلقني فأنت في حل مني وتزوج غيري فأبى .. وألححت عليه في ذلك مرارا فصدني بشراسة وأقسم لي أنه سعيد بحياتنا سويا ..
ويعاودها صوت ضميرها كالبركان اللاهب يخترق كل مسامات ذاتها :
- أنت على يقين أنه يحبك ولن يطلقك أبدا مهما كلفه ذلك غاليا .. فاستسلم لمصيره وهو يتجرع مرارة الحرمان ، يوما بعد يوم إلى أن بدا الشيب في عارضيه ووخط ناصية رأسه ، ثم هاهو يزداد حزنا وبؤسا كلما انصرمت السنوات العجاف من عمريكما .
جاءها صوته العذب برنته الحزينة ليوقظها من غمرة الانصهار الداخلي:
- ما بك شاردة ؟ هل تشكين من شيء ؟
- لا.. لا يا عزيزي لاشيء.
- بلى هناك أمر يعنّيك ، لقد ظللت فترة غير وجيزة ساهمة لا تسمعين صوتي وأنا أحادثك.
شعرت أنه لا مجال للتكتم فعيناه الثاقبتان مثل لؤلؤتين تشع منهما قوة شخصيته ، وذكائه الحاد ، تمنعانها من التهرب والمراوغة ، فلا بد أن تلقي له بحملها الثقيل.
- أصارحك القول أنني أتألم كثيرا لحياتنا البائسة وبيتنا الخالي من ضجيج الأطفال ومشاغباتهم الحلوة أكاد لا أنام الليل، خناجر حادة تمزق أحشائي وأحس أنني ظلمتك معي وقسوت عليك كثيرا إنني أنانية ..أنانية .. وانفجرت باكية ..
مد يده بمنديل يكفكف به دمعها وهو يواسيها في إشفاق:
- لا عليك هذا أمر الله .. ويكفي أننا معا ، ووجودك إلى جنبي يعدل الدنيا وما حوت.
- ولكن ما ذنب ...
ووضع يده على فمها معاتبا :
- سامحك الله ... لما تعذبين نفسك ، كم مرة أخبرتك أنني سعيد معك ويكفيني ذلك ..فرجاء لا تفتحي الموضوع مرة أخرى .
تسربلت بالصمت ترضية له وفي أعماقها صوت داو يرجها رجا :
- أيتها العاقر لما تمسكين بتلابيبه ؟
وطفت إلى ذاكرتها أحداث ليلة البارحة عندما غصت دارهما بأبناء أخت زوجها السبعة ، لقد كانت نظراته إليهم جائعة كاد يلتهمهم واحدا واحدا ، فلم يفتر من مداعبة هذا وتقبيل ذلك لاسيما "عبير" تلك البرعمة الغضة ، إنه متعلق بها للغاية إذ ملأ حجرها حلوى وجيوبها نقودا ، ولم يشأ تركها تذهب مع أبويها وإخوتها بل حاول إبقاءها لولا أن أباها تدخل معتذرا إليه بأنها لا بد أن تستيقظ من الغد مبكرة لتذهب مع إخوتها إلى المدرسة .. فأرسل يديها الطريتين بعد أن طبع على جبينها قبلة حارة .. وكادت تطفر من عينيه الدموع لولا أن غالبها بكبرياء متعجرف .
كانت تنظر إليه بمرارة ونار من الألم تتقد بداخلها .
ورنت في أذنيها كلمات أخت زوجها القاسية :
- ماذا تنتظران ..؟ أنجبا لكما طفلا أو طفلين يؤانسكما في وحدتكما .
وأجابها أخوها وهو مغض في حزن عميق :
- كل شيء بيد الله ... كل شيء بيد الله .
وجاءها صوته ثانية لينقذها من ضميرها ولو للحظات قصيرة:
- أنا جائع .. ماذا طبخت لنا اليوم ؟
- ما تحبه وتؤثره .. فورا سأعد المائدة ..
في تلك الليلة عصفت برأسها خواطر وشجون جمة ،لم يقو قلبها المرهف على حبسها ولم تنم إلا في ساعة متأخرة وكلما حاولت تسليم جفونها للكرى تبدى لها شبح أخت زوجها تصرخ فيها :
- أيتها العاقر.. لما تمسكين بتلابيبه ؟
وما إن فتح زوجها عينيه مع نسمات الفجر الأولى حتى ألفاها تجلس القرفصاء على السرير وهي تحدق فيه بحنان وعطف فياض فسألها برقة :
- ألم تنامي ...؟
لم تسمع سؤاله كانت مركزة كل جوارحها في القرار الذي توصلت إليه ، فخاطبته بلهجة قوية وإصرار حاسم :
- لا بد أن تتزوج ..
فرك عينيه حتى ينفض عنهما أثر النعاس ثم سألها في ذهول :
- ماذا تقولين ؟
هو ما سمعت لا بد أن تتزوج وأنا التي سأخطب لك عروسك بنفسي،فلا بد من مصباح ينير بيتنا المظلم..
لا بد من عصفور يملأه علينا نغمات صادية تكسر بوتقة الصمت الخانق التي تجثم على صدورنا وتحول حياتنا إلى جحيم بارد .. بارد .
أمسك كفيها بين راحتيه وأجابها في إغضاء :
- أنت وما تريدين.. أنت وما تريدين يا عزيزتي.
أحست بنسمات لطيفة تداعب جفونها .. وفي القلب جرح بدأ يندمل .