المنديل الأبيض

زاهية بنت البحر

عيون تبكي.. صدور تشهق بالحزن وتغلي بالكره والثورة، أفواه تلهج بالدعاء وبعضها بالسباب والجميع رجالا ونساء.. شيوخًا وأطفالا أخرجوا قسرا من بيوتهم، يحملون مايقدرون عليه من أمتعة، تاركين ممتلكاتهم التي أفنى البعض منهم عمره ريثما تسنى له الحصول عليها.. أغلق الغزاة الأبواب خلف أصحابها، ودخلوها مستوطنين.. وقف الأهالي في الشارع ينتظرون الحافلات التي ستنقلهم خارج الحدود، وعيونهم تسجل الصور الحية الأخيرة لمدينتهم.. عكا كم أنت جميلة وحبيبة إلى القلوب.. ماأصعب لحظة الوداع.. تبًا لهم هاهم يطردوننا من ديارنا،والدمع يسقي الوجوه نارا في محاولة لقلعنا من جذورنا المتشبثة في ذواتنا.. وصلت الحافلات.. أسرع الجميع للصعود إليها رغمًا عنهم.. كانت تنتظر دورها لصعود الحافلة.. لم يبقَ غيرها.. امتدت الأيدي لمساعدتها.. لم تستطع ولوج الباب لضخامة جسدها... الباب لايتسع لها.. حاولت الدخول بكتفها اليساري أولا ثم اليميني.. فشلت أيضًا.. أسرع شبان العائلة لحشرها في الباب، كاد جنبا الباب يأكلان من جسدها المتعب.. لم تفلح المحاولة، والجنود الغزاة يرون ذلك ويضحكون.. ذهبت أول حافلة.. الثانية.. الثالثة.. الرابعة، وعندما بدأت الأخيرة بالابتعاد، كانت ابنة عكا تقف وحيدة، والدموع تتساقط من عينيها، وهي تودع أهلها كلهم بعد أن طردهم الغزاة من مدينتهم، فأخرجت من صدرها منديلا أبيض، وراحت تلوح به للراحلين .