ليلة عيد
ليلة عيد *
إبراهيم عاصي *
إنه ليوم مبارك إن شاء الله .. وإنه لصباح سعيد .. الغرباء كثيرون هذا اليوم في المدينة .. وستكون الأسواق مزدحمة بالناس .. غداً عيد الأضحى .. يا رب ارزقني قوت يومي .. وساعدني أن أفي بما تؤمله مني أمي الأرملة الصابرة ، وبما وعدت به إخوتي الصغار.
محمود يريد قنبازاً مقصباً . صبيحة : تريد حذاء أحمر. رشيدة : قالت لي بلثغتها الناعمة وبراءتها المحببة : " رباح .. أنا .. بدي .. حلا .. وة ".
أمي : لم تطلب مني شيئاً لأنها تعرف كم أعاني حتى أحصّل القرش ، ولكن أليس من حقها علي أن أشتري لها شيئاً ما بمناسبة العيد ؟.
وهكذا ظل رباح يخاطب نفسه وهو منطلق من بيته صباح يوم " الوقفة " يدفع بكلتا يديه عربته ذات العجلات الأربع وعليها منقل من فحم ، وعدد من أسياخ الشواء ، ولوحة ذات إطار، مدلاة على واجهة العربة ، ربما كانت شهادة ترخيص بالعمل !
كانت الأزقة التي يجتازها ضيقة كثيرة الالتواء ، أو هي متاهات مفروشة بشتى أنواع الفضلات .. ولم لا ؟ أليست أزقة حي (التكية) أحد الأحياء الشعبية المعروفة في المدينة العامرة !
إلا أن ذلك كله لم يكن ليعيق رباحاً عن المضي بعربته دون عناء يذكر بسبب الاعتياد . ولم تكن تلك المناظر اليومية مما يلفت نظره فقد ألفها وألفته .. ولذلك ظل يمشي والخواطر تدور في رأسه .. ظل يدفع عربته والآمال تداعب قلبه بالربح المضاعف في هذا اليوم الكريم . وظل لا يولي اهتماماً لتلك الأسراب الكثيفة من الهوام التي كانت تعترض سبيله .
وأخيراً وصل رباح إلى المسلخ واشترى من (المعاليق) ضعف الكمية التي اعتاد أن يشتريها كل يوم .. وانطلق بعربته يشق طريقه إلى حيث يتجمع الناس ويزدحمون ولا سيما في مثل هذا اليوم الذي يكثر فيه توارد أهل الريف على المدينة لشراء حاجيات العيد .
كان دائم النداء على بضاعته ، والترويج لسلعته .. كان حيثما اتجه وأينما حل لا يفتأ ينادي بصوته المنغم الرقيق " شوينا المعاليق يا ناس ، والسيخ بفرنك ورغيف الخبر بفرنك يا ناس ".
وكان بادي النشاط والهمة ، ولا يكاد ينضج الشواء لزبون حتى يأتيه آخر. بل لقد بلغ الأمر بالناس أن تحلقوا عليه حتى لم يعد بمقدوره أن يلبي حاجات الجميع . وهو برغم ذلك لا يفتر له عزم ولا تتناقص له همة ولا يفتأ ينادي بصوته العذب الحنان " شوينا المعاليق يا مخاليق السيخ بفرنك ورغيف الخبز بفرنك يا ناس " .
وهكذا طيلة النهار. حتى إذا أقبل المساء أو كاد نفدت بضاعته ولم يبق معه منها إلا القليل . وهنا لم يكن أمامه بد من أن يضاعف نشاطه وتجواله في محاولة لإنقاذ هذا القليل الباقي معه ، خشية الكساد والفساد وتضاؤل الربح الموعود .
ـ 2 ـ
الساعة الآن تقارب السابعة مساء . المكان : أحد المداخل المؤدية إلى إحدى الحدائق الكبيرة في حي من الأحياء " الراقية " في المدينة . الشمس مرتفعة على الأفق الغربي في لحظة الوداع . معظم المتنزهين بدؤوا يغادرون الحديقة ، هناك ازدحام على الأبواب ، ولكن ما بال الناس يزدحمون هنا بشكل يثير الانتباه ؟! هذه كتلة متراصة من الخلق ! وهذان شرطيان يتوسل إليهما نفر من الرجال أن يكتفيا بالذي حصل ! وهؤلاء هم بعض الصبية يتخاطفون الفرنكات المنثورة بسخاء على قارعة الطريق وبين أرجل المارة والمتنزهين منهم من يفر بها . ومنهم من يأتي بها طائعاً يضعها بين يدي رجل مسن نشر أمامه محرمة وأخذ يناشد الناس أن يوافوه بكل فرنك يعثرون عليه على الأرض !
وها هو شاب لم يتجاوز العشرين . فيه ملامح كبرياء وأنفة ، وعليه دلائل العفة .. يدافع بعض الناس ويدافعونه .. إنه بلا وعي وقميصه بلا كم ، وعيناه زائغتان محمرتان ، وأوداجه منتفخة ، يقذف من فمه كلاماً حاداً سريعاً كأنه شواظ !.
وفي وسط هذا الزحام كله كان يتبين الرائي عربة لها أربع عجلات تتكئ على جانبها الأيمن ، ومن حولها كفتا ميزان مطروحتان بلا نظام ، ومنقل منكب على وجهه يحف به فحم ناعم بعضه مشتعل يتوقد ، وبعضه يغطيه الرماد .
وكان الرائي يتبين أسياخ شواء مبعثرة ! ودرجاً من الخشب مقلوباً فارغاً !. ولوحة ذات نظام مهشم يحيط بشهادة للدراسة الثانوية تحمل اسم " رباح عبد الجبار" المولود عام 1944 (1).
الهمهمات والتعليقات لا يحصى لها عد ، وكل واحد من القوم يدلي برأي ويتكلم من وجهة نظر خاصة . وكلما انضاف إلى الحشد متفرج جديد ، ازداد عدد المستطلعين مستطلع جديد وبالتالي معلق جديد.
كان بعض المعلقين يلوم الشرطيين ويرثي لحال هذا الكادح المسكين ، وماذا فيها إذا وقف في هذا المكان العام ؟ أهو رجس ؟ أهو بائع مخدرات ؟ أم هو محتال يسلب أموال الناس ؟ ألم يكن بمقدورهم أن يصرفوه بالحسنى عن هذا المكان ما دام (منظره مؤذياً) ولا يليق بهذه البقعة من المدينة كما يقولون ؟!..
وكان بعضهم يوجه النقد إلى (بائع المعاليق) لأنه لم يستجب لأمر الانسحاب فوراً من مكانه . مما أدى إلى حصول الملاسنة ثم الضرب والشتم وقطع كم القميص والرمي بالعربة وما عليها أرضاً .
وكان آخرون يحملون التبعة للنظام والقانون وليس لمنفذيه ، فالشرطي (ابن حكومة) وهو (عبد) (مأمور) . فعندما يقول له القانون امنع " المناظر المؤذية " من أن تقف في الشوارع العامة والأحياء الراقية .. يمنع . وعندما يقول له اسمح .. يسمح .
على أن نفراً من القوم كان يحاول أن يقوم بدور الحياد الإيجابي وعدم الانحياز لجهة من الجهات . وفي نظر هؤلاء :
إن الشرطيين أخطأا بقلب العربة وباستخدام العنف إلى هذا الحد .
وإن القوانين مصيبة عندما تعمل على إبعاد أمثال هؤلاء الباعة عن الأحياء الراقية ، والساحات الرسمية ، والمتنزهات أن أمكنة من هذا النوع يرتادها الأجانب ! ويعبرها السياح ! ويمر بها الموظفون الكبار والشخصيات ذات الوزن ! وتطل عليها بيوت أكابر الناس ! إن أمثال هؤلاء الباعة ينحصر مكانهم في الساحات الشعبية والأسواق البلدية حيث روائحهم مألوفة ، ومنظرهم غير منفر بل معتاد !
وإن هذا البائع مسكين على كل حال .. لقد خسر بلحظة ما ربحه بيوم ، حبذا لو انسحب من مواقعه بسرعة ولم يتلكأ . إذن كانت المسألة حلت بالوسائل السلمية .. فيا تعساً له من إنسان منكوب الحظ سيئ الطالع !
ـ 3 ـ
سجا الليل ، وهبت نسيمات رخية رطيبة تنعش المفؤود وتجلو هم المنكود . مداخل المدينة الرئيسية، والشوارع العريضة الفسيحة تتوهج بالأنوار الفضية ، وبالمصابيح الأنبوبية اللطيفة المتناسقة . الناس لم يبق منهم في الطرقات إلا القليل ، فمدافع العيد قد أطلقت وثبت أن يوم غد هو يوم العيد . وهنا .. في هذا الشارع الواسع الممتد لا تلمح حولك إلا بنايات حديثة فخمة تدلت عرائشها وأورادها من كل شرفة بدأت تستحيل في هذه الأمسية الصيفية الجميلة إلى عش من أعشاش الغرام المكشوفة .
وهنا .. في هذا الشارع الممتد الذي اشتبكت أشجاره وتعانقت أغصانه لا تقع عينك إلا على نوافذ مفتحة تتدفق بالأضواء من كل لون ، وتزدان بالستائر من كل نوع بين قرمزي وأصفر، وأرجواني وأحمر. تتموج خلالها الغلالات الرقيقة الناعمة ، وتمتد إليها أنامل النسيم الرقيقة أحياناً فتخفق على الزجاج بإيقاع ساحر أنيق ، كما تخفق أجنحة الفراش أو قلوب المحبين .
ولا نسل عن السامرين والسامرات الذين يتوارون وراءها أو يظهرون بالأثواب الزاهية ، والنحور المكشوفة ، والحلي البراقة الوهاجة ، والشعور الملفوفة أو المنفوشة ، ومن خلفهم مسجلة تدور باللحن المفضل وبين أيديهم خدم يسعون بالفاكهة الشهية أو بالطعام والشراب اللذيذ ...
كثيرون أولئك الذين سيشربون الليلة (نخب العيد) ، وأكثر منهم أولئك الذين يهيئون لحفلة شاي أو رقص يقيمونها غداة غد إحياء لهذه المناسبة المباركة ، وجمعاً لشمل الأحباب والحبيبات ، والأصدقاء والصديقات ! وهنا في هذا الشارع الواسع الممتد ذاته .. لا يمر بك إلا سيارات فارهة صغيرة لماعة . إذا أسرعت فهي البرق الخاطف ، وإذا أبطأت فهي العروس تميس ميساً وتختال اختيالاً .
على أن لعجلات هذه السيارات " وشيشاً " محبباً إلى الأسماع .. إنه صوت حبات المياه تنفقئ تحت الدواليب وتتطاير على جنبات السيارة وهي تلتهم الأرض التهاماً .. إنه الماء الذي اعتادت أن ترشه البلدية بسياراتها الخاصة صباح مساء في مثل هذه الشوارع دفعاً للغبار المحتمل ، وترطيباً للجو، وتجميلاً للمنظر في أعين الساكنين والسابلين .
ومنذ لحظات كانت إحدى الدمى المتحركة المزركشة ، تنكفئ على وجهها عندما عثر كعبها على الأرض الناعمة الرطيبة الملساء ، لولا أن تداركتها يد فتاها التي كانت تتأبطها برفق وحنان ، مما جعل الاثنين يلعنان البلد والبلدية معاً ويقولان بصوت واحد يفيض غيظاً وتأففاً : " لم كل هذا الماء ؟ إن للنظافة حدوداً !"
ـ4 ـ
كان رباح قد استجمع قواه ، واسترد بعض أنفاسه وأعصابه المتوفزة قهراً ، ولملم متاعه وشيئاً من غلته التي ضاع معظمها بين أيدي وأرجل المارة والمحتشدين ، وأقام عربته المقلوبة بمساعدة بعض المتفرجين وأهل المروءة الذين رثوا لحاله وآلمهم مصابه .
وها هو ذا يدفع عربته أمامه يجتاز تلك الشوارع الفسيحة الجميلة الهانئة التي لفها المساء بغلالته الفاتنة .. قاصداً بيته وأهله . لم يكن أمامه غير أن يرضى بهذه النتيجة التي انتهت لصالحه على أي حال !. فلولا تدخل نفر أصحاب المروءة في الأمر لبات ليلته موقوفاً ، بتهمة ممانعة رجال رسميين من ممارسة وظيفتهم بالقوة ! وبتهمة انتهاك حرمة أحياء وأمكنة ممنوعة على أمثاله من الباعة المتجولين ! وليت الأمر ينتهي عند هذا الحد فهناك المحاكمة .. وهنالك السجن الذي قد يطول أمده .
وبينما كان يستعرض هذه النتيجة التي انتهى إليها.. بدأت الأفكار تنداح عن مخيلته شيئاً فشيئاً لتحل محلها صورة الصغير محمود واقفاً على باب الدار لا يبرحه منذ الضحى إلا لماماً ، بانتظار أوبة أخيه ومعه القنباز المقصب الجديد الذي وعده به .
وطيف أخته صبيحة تتردد على أخيها محمود حيناً بعد حين تسأله هل عاد أخونا رباح ؟ متى يعود رباح ؟ لقد تأخر اليوم !. قد يأتي من هذه الجهة .. ولكن لا ليس من عادته أن يأتي إلا من هنا .. أنا لن أنام حتى أضع معي على الوسادة حذائي الأحمر الجديد الذي اشتراه لي أخي رباح .
وصورة رشيدة الصغرى تتلمظ طعم الحلاوة الموعودة بفمها ، كلما سمعت من أخويها أو أمها كلمة رباح .
وصورة أمه الأرملة الصابرة البائسة وهي تترقب عودته راضياً غانماً ، باراً بوعده لإخوته ، جابراً ذلهم وخاطرهم بهذا العيد .. إن لم تكن هي الأخرى تمني نفسها (بمفاجأة) سنوية خاصة بها ، كجورب أو منديل ، أو بطبخة دسمة تأكلها مع أولادها في العيد .
وعندما تراكمت على مخيلته هذه الصور، بدأ يحس بدوار في رأسه وصداع عنيف لم يشعر بمثلهما حتى عندما كان في أوج الأزمة على باب الحديقة المشؤوم ! ثم ما زال شريط هذه الصور يروح ويغدو على رأسه حتى أخذ يهذي كالمحموم بكلام خافت غير مفهوم .
على أنه الآن قد وصل إلى مشارف حيهم العتيد .. وها هو ذا ينساب في أزقته الشاحبة ، ومتاهاته شبه المظلمة ، ومنعرجاته ذات الأشباح في محاولة تتكرر كل يوم للنفاذ إلى البيت .
ولكن ما بال العربة في هذا اليوم لها جلبة وقرقعة غير معهودتين ؟ لقد أدرك السر في ذلك !. إنه يعود اليوم ومعظم الناس في الحي نيام ، والسكون مخيم ، فلا صوت إلا صوت عربته ، كان من عادته أن يأتي مع المغرب وهو اليوم يعود بعد العشاء . وهل لأحد من سكان الحي المتعبين المجهدين أن يمكث حتى هذه الساعة سهران لا ينام ؟
إنه الآن يسير في أحد الأزقة الرئيسية ، الزقاق الذي كان يسمع منذ الطفولة بهدمه ليشق مكانه شارع جديد . نعم هكذا ورد في (الخريطة) وهكذا كان يسمع من المرحوم أبيه منذ طفولته !.
كان من عادته ألا يعبأ بما يلقى في أزقة الحي من أنواع الهوام والمخلوقات !. ولكنه الليلة يبدو أرحم ما يكون بها .. فهو يحذر ما استطاع الحذر إيقاظ جماعات الذباب الهاجعة بأحلامها اللذيذة فوق أكوام القشور والنفايات ـ إياها التي مر بها في الصباح ـ وإذا ما انفرط ـ عن غير قصد منه ـ عنقود ذباب كان يتدلى من قرنه بين جدارين .. سارع إلى الاعتذار إليه وتمتم قائلاً : معذرة أيها الذباب .. لقد أسأت إليك وعكرت عليك صفو أحلامك .. ولكن ليس ذلك عن عمد مني فسامحني ! وهو الليلة يتحاشى ما وسعه التحاشي أن يطمس بعنف في غدران المياه الآسنة وبرك المفرزات السائلة المتناثرة على طول الأزقة .. حتى لا يروع أسراب البرغش والبعوض الغافية على ضفافها وحوافيها بأمان واطمئنان ..
ولما وصل إلى داره " ربط " عربته على بابها ودخل بيته فإذا أمه قائمة خلف الباب تنتظره في قلق وتوجس ، وإذا إخوته يترقبون عودته بعيون ذابلة تغالب النعاس منذ زمن طويل .
* كتبت القصة عام 1964 .
** أديب سوري معتقل منذ عام 1979