الأحدب

يوسف حامد أبو صعيليك

[email protected]

-1-

" صمت الأحدب عذاب ، وكلامه غير مباح ، والسجن سجنان : سجن  الروح .. وسجن الحقيقة .

ولكن ، هل من انفصال بين الروح الحقيقة ؟"

أجيبي أيتها الغجرية …… أجيبي.

نهض وأخذ يقرع الأجراس بقوة :

أجيبي  …… أجيبي.

-2-

الغجرية لن تعرف صهيل روحه ……… والحياة كذلك .

-  وقرع الأجراس …    هل يطفئ اللهيب ؟.

الغجرية والحياة تنكران الحقيقة …  روحاهما صدئتان.

- وأنا ؟.

اقرع أجراسك  بصمت.

- لم يعد الصمت يكفي .

لا دواء لك سوى الصمت .

- صمتي عذاب .

أخف وطئاً من البوح .

 - كلاهما حريق يا أبتِ   …  كلاهما حريق .

وغادر حجرة رئيس الدير مبتعداً.

-3-

عندما أحب الأحدب الحياة ، ورأى جمالها بعينٍ لم  يره فيها أحد ، لم يكن بحسبانه أنها ستلقي في وجهه التراب لتقول له :

- أيها الغبي … أفلا نظرت لقبح خلقتك  واحديداب ظهرك أولاً قبل أن ترى جمالي ؟.

بكى حينها ……   وعاد ليقرع الأجراس ، من يومها عرف حقيقة جمال الحياة .

-4-

عندما قرع الجرس ، انطلق الرنين في الفضاء وجاءه الصوت :

- جوهرك هو الأصل أيها الأحدب ، حقيقتك هي الجمال، جمالك الحقيقة المحضة .

ترك الحبل وجلس يبكي :

_ ولكني المنبوذ يا صديقي ……   ولكني المهجور .

 -5-

قبل أن يموت رئيس الدير ، أوصى بأن يقوم الأحدب بمراسيم الصلاة على جثمانه .

صاح الرهبان :

_  ولكنّه المشوه يا أبانا …… حتى أنه لا يعرف سوى قرع الأجراس ………  والبكاء.

قال رئيس الدير :

-  هو الأجدر بها بينكم .

لماذا يا أبانا ؟!.

-لأنه عرف الحقيقة .

-6-

عندما فرغ المشيعون من دفن رئيس الدير ، انكب الأحدب على القبر :

يا أبت … تأويل رؤياي لم يأت بعد ، وقد بلغت من العمر عتياً ؟.

جاءه النشيد من خلال التراب :

- لقد سجدت الحقيقة في قلبك ……    وأشرقت بها ذاتك .

-7-

كانت الأجراس تفح ألسنة النيران من أعماقها ، وتلفح وجهه ، كان مقيداً إلى أعمدة الكنيسة ، يصرخ وليس من مجيب ، ينادي ولكن دون صوت .

واستيقظ  فزعاً من نومه ،وتناول كأس الماء ليطفئ حريق حلقه.

-8-

جاء أحد الرهبان إلى فراش الأحدب ، ولما لم يجده أخذ يبحث عنه ، وانتشر النبأ في أرجاء الدير ، لقد رحل الأحدب ؛ حمل صرته على ظهره ، وترك قرع الأجراس ، وانطلق في البرية، ولم يعرف أحد من الرهبان خط مسيره .

-9-

قالت له الغجرية :

لم تكتشف بعد من حولك ، انت ساذج فقط ، ألم أقل لك من قبل : لم تزل طفلاً صغيراً ؟.

تساءل :

أتجتمع السذاجة والحقيقة معاً ؟.

-10-

أمطرت السماء بغزارة فأخذ يجري تحت قطرات المطر حتى ابتل تماماً ، وأخذ يصرخ :

-  يا أنا …… ألم تعرفني بعد ؟ ، أنا هو  ……… ذاك   اللايدري من هو …… يا حقيقة …اسكني أضلعي … فقد تأججت ناراً  واصطلت حتى كلّت ..  آه .. يا أنا .

واستمر يركض .

-11-

لما رأى النون في البحر ؛ أخذ ينادي :

يا يونس بن متّى ، من أنا بجانبك ، لقد لفظك الحوت في النهاية ، ولم  يلفظني بعد .. … .. ولكن .. من أنا إلى جانبك ؟.

ونزل من الزورق ، وجلس فوق صخرة بجانب الشجرة ؛ وقال :

الجهل بالحقيقة عذاب ؛ والعلم بها نار ، وأنا بينهما غريق محترق .

-12-

- كيف يقرع الأجراس للآخرين من لا يسمعها ، كيف يعطي الفاقد ما لا يملك ؟!.

ولكنهم  صمٌ بكم ٌ عميٌ ، فهم لا يعقلون ؟.

يا غبي ، الواقع أقوى منك ، أنت ضعيفٌ هش ، هشٌ جداً ، تبكي بلا فائدة …… يا أخي تأقلم مع الواقع .

هرب الأحدب ، واختفى في كهفه .