لعبة الموت
محمد حسن فقيه *
ريح عاصفة تتبدد منكسرة أمام الصخور الصماء الصلدة ، زوابع تتلوى بشكل لولبي محاولة اقتلاع الأشجار من جذورها ، فتنحني الأشجار لمعانقة الأرض بجذوع مرنة ريثما تغادرها العاصفة لتعاود انتصابها من جديد ، برد قارص ، وريح حرجف ، وزمهرير يعصف بالمكان من كل جهة ، وقد أقفرت الجبال والسهول من أي كائن حي .
أسراب الغربان تنعق في الجو وهي تهوي منحدرة نحو قعر الوادي. أوت الثعالب إلى أوكارها ، والطيور إلى أعشاشها ، والأفاعي والفئران إلى جحورها ، والبهائم إلى زرائبها ، والبشر إلى بيوتها ، ولم يبق إلا أولئك الرجال الملثمون وهم ينحدرون من الجبل نحو الوادي، وريح السموم تلفح وجوههم بقسوة ، لكن الأحلام التي تقفز في مخيلتهم كانت أكبر من أن تعيقهم عن الشروع في مهمتهم ، أو يشعروا بأن البرد عقبة كأداء تعترضهم .
لقد استفسرت عن كل حركاته وسكناته وتجارته ، ورصدتها وتابعت كثيرا منها بنفسي.... فاليوم موعده... بل الساعة.... إن الغنيمة ستكون مجزية ، وثروة نفيسة تكفينا كل حياتنا ! .
هكذا تكلم الشاب ذو العصابة الحمراء والذي لم يظهر منه إلا عينان تبرقان كعيني قط ، وجزء صغير من مارن أنفه الذي اختفى بقيته مع أرنبته تحت اللثام مجيبا جاره العجوز الذي يستند على كتفه بين الحين والحين .
ثم أضاف كأنما يقدم تعليمات وأوامر صارمة لا يجوز نسيانها أو تجاوزها ، يجب أن تتم الأمور كما حبكنا خطتها ، ونسجنا تفاصيلها... وإلا فلن ينفعنا الندم... ولات حين مندم .
علق الشاب الملفع ببطانية مهترئة تنبعث منها رائحة العفن.. وغيره .. ومن خلف لثامه ، وعصابته السوداء التي أحكمت حول رأسه تلك الثروة تكفي حياة من؟... لعلك تقصد حياة والدك العجوز الذي لم يبق منها إلا المهل في قاع الزير.
- اطمئن أيها المراهق بل من حياتي وحياتك ! .
لم يأبه الرجل العجوز للغط الصبيان إلا أنه ابتدر بسؤاله بينما كان يسير على مهل ، ويتهاوى بين الشابين......
- وهل تظناه سيحضر في هذا الجو البارد ؟
- كأنك تظنه سيأتينا يجري على قدميه حافيا في العراء حتى يمنعه البرد من انجاز أعماله ثم أضاف - ذو العصابة الحمراء - قد لا يدري أن الجو بارد في الخارج لولا مقياس درجة الحرارة داخل سيارته الفخمة المكيفة والذي يظهر على الشاشة الإلكترونية درجة الحرارة في الداخل والخارج .
علق الشاب الملفع بالبطانية ..... هذا إن انتبه إليه .
تابع الشاب ذو العصابة الحمراء... وما أظنه ينتبه فإن صفقة التجارة وأرباحها قد تشل تفكيره وتعطل حواسه.
تشبث الرجل العجوز بثياب الشاب ذو البطانية حينما زلت قدمه وتعثرت بحجر بعدها ، كاد أن ينقلب على أثرها إلى قاع الوادي ، ويتلاشى كبولة شاة ، على رمال صحراء قاحلة تلتهب .
- أمسك نفسك يا عمي انتبه لنفسك ، أين تضع رجلك وإلا لفشلت الخطة ، وتبخرت أحلامنا أدراج الرياح .
علق ذو العصابة الحمراء مازحا: لن تفشل الخطة مهما حصل حتى لو زلت قدم عمك وتدحرج إلى قاع الوادي .
- ومن سيمثل دوره ؟
- لن يمثل دوره أحد... ستصبح القصة نصف حقيقة ليس أكثر أجاب العجوز بخبث ضاحكا :
لعنة الله عليك يا ولد ، دائما أقول إنك لئيم كوالدك ! .. أترى والدك يموت وتكمل خطتك مع ابن عمك ، ولا تفكر في إسعافي وتأجيل خطتكم لمرة أخرى ؟ .
- ومن قال إني سأراك وأنت تموت ؟ لن أصل إليك إلا وقد شبعت موتا ، هذا من جهة ومن جهة أخرى لو حملناك مع صاحبنا التاجر بسيارته إلى المستشفى سيتولد بيننا وبينه معرفة ومودة تقتضي الاعتراف بالجميل... وبعدها يصعب علينا تنفيذ الخطة .
- ولم يصعب يا أبناء الأصالة و النسب الشريف والكعب العالي ؟ !... ألأنكم رجال مروءة ، إحملوني في سيارة أخرى ودعوا الرجل يمر هذا اليوم.. ونفذوا خطتكم في يوم آخر... ولكنكم أنذال كآبائكم "تفو"عليكم يا أولاد الأفاعي ! .
نهض الرجل البدين ذو الوجنتين المنتفختين من خلف صخرة صماء ،
كان ينبطح خلفها متترسا للدفاع عن نفسه بمسدسه الرشاش الصغير من اللصوص القتلة الذين حاولوا الاعتداء عليه .
احتشدت السيارات في المنطقة وترجل منها الركاب يستفسرون عن الخبر ويستطلعون الأمر .
نهض الرجل البدين جالسا وأسند ظهره إلى الصخرة وقد تحلق المسافرون حوله ينصتون إليه وهو يروي لهم حكايته :
بينما كنت أسير مسرعا بسيارتي على الطريق هالني منظرا عبرته ، كانا رجلين يلوحان بعصابتيهما وهما يتقدمان وسط الطريق ويطلبان النجدة والإغاثة ، نقلت رجلي من فوق مدعس البنزين إلى المكابح وأنا أراقب في المرآة حال الرجلين ، فلم أتبين غير بطانية مكومة على كتف الطريق خلفهما ، تراجعت بالسيارة إلى الخلف شيئا فشيئا وأنا أراقب الطريق والرجلين ، حتى إذا وصلا عندي انثالت عبارات الاستغاثة والنجدة وطلب المعونة من كليهما ، شاب جلد في مقتبل العمر، أسمر السحنة ، متجهم الوجه ، بارز الوجنتين ، ناتئ الذقن ، في عينيه نظرات تفحص غامضة ، وفي حركاته فوضى واضطراب ظاهر .
ورجل عجوز متجعد الوجه ، كلحاء شجرة شاخت ، وبدت عروقه زرقاء بارزة متوفزة في ظاهر كفيه الخشنتين المكسوتين بطبقة أقرب ما تكون إلى الحراشف ، مد الرجل العجوز برأسه من النافذة وهو يومئ جهة البطانية بيد مرتجفة : معنا حالة خطيرة تقتضي الإسعاف العاجل ، وإننا نطمع في كرمك أن تعيننا على نقله في طريقك إلى المستشفى .
نظرت إلى عينيه الكسيرتين ، وعروقه المتوفزة من رقبته وظاهر كفيه ، وقبل أن أجيبه ، أتم حديثه بصوت متهدج أثر في نفسي ، ورق له قلبي ، وحرك مكامن الإنسانية المختبئة في ضميري...... إنه ولدي .... ومعيلنا .
ودون أن أجيب هززت برأسي علامة الموافقة وتراجعت بالسيارة جهة البطانية ثم ترجلت من السيارة وفتحت بابها الخلفي ، واتجهت بعدها نحو البطانية وبجانبي الرجل العجوز ، توجهت إليه بالسؤال:
- ما مرضه ؟ .... ما أصابه ؟
- ألم في الصدر، ووخز شديد مؤلم جهة القلب ، وضيق في التنفس .
- وكيف حاله الآن ؟
- الله وحده يعلم كيف حاله.... كأنه في غيبوبة .
تساءلت في نفسي... ما به يا ترى؟ انسداد في الشريان؟ أم جلطة ؟ لعله قد ودع الحياة ... ولكن هل من الأدب أن أعتذر لهم بدعوى الظن أنه قد مات أو ودع الحياة .
إن المروءة تقتضي أن أنقله ولو كان ميتا على الأقل ولا يشعر المرء بالندم وعذاب الضمير ، ولا يتسلل إلى نفسه وسوسة الشيطان وعمل لو.
أمسك الشاب بطرف البطانية بسرعة من الجهة القريبة من السيارة وهو يدعوني ويحثني إلى الإسراع في حمل البطانية من الجهة الأخرى وقد انحسرت البطانية عن وجه الرجل الملفع وانكشف بعض وجهه فدنوت منه لأكشف عنه واستطلع أمره... هل ما زال به نفس يتردد ورمق حياة ..... أم لعله في عداد الأموات .
لم أنتبه حينها إلى صاحبه الثاني حين حاول أن يبعدني بطريقة هادئة من الكشف عن وجهه ، وهو يستعجلني ويحثني في الإسراع لحملها إلى السيارة إلا أنني لم آبه لمحاولته تلك ، ورفعت طرف البطانية عن وجهه لأرى رجلا مغمض العينين ، ملوي العنق ، مرتخي العضلات ، أقرب إلى هيئة الأموات ، فصرخت بشكل لا شعوري في صاحبه الثاني ليحمل بسرعة من الطرف الآخر .
لم أفهم حينها ارتباك صاحبه هذا ومحاولة دفعه لي لأحمل من الجهة الأخرى ، فصرخت به مرة أخرى منفعلا : هيا احمل بسرعة من هناك .
- وماذا حدث بعدها ؟ سأل أحد المستمعين لحديث التاجر.
- ما حدث كان أمرا غريبا وبعيدا عن التصور... ما إن حملناه بالبطانية وانطلقنا به باتجاه السيارة حتى لاحظت حركة وتململا تحت البطانية لم يشد انتباهي هذا الأمر حينها ، بل العكس من ذلك ، لقد نبت في نفسي بارقة أمل بأن الرجل على قيد الحياة .
وفجأة رن في أذني دوي هائل ، ورشقة رصاص شقت مسامعي ، ارتعبت من أثر المفاجئة دون أن أتبين حقيقة ما حدث ، فقفزت من مكاني بشكل لا شعوري ، تاركا البطانية وصاحبها الملفع بداخلها يسقط على الأرض ، وقبل أن يعود إلي صوابي ، وفي ظرف لمحات قليلة ، رأيت الرجل الذي يحمل معي من الجهة الأخرى يسقط على الأرض ، وينابيع الدم تنفجر من صدره وهو يصرخ بأعلى صوته.... لقد قتلتني.... لقد قتلتني ، بينما سمعت عجوز الجن الأشيب يصرخ من قحف رأسه : لقد قتلت ولدي أيها الأبله...
أدركت الحقيقة حينها وفهمت أسباب إسراع المقتول ليحمل من جهة الرأس حسب الاتفاق ، وأدركت سر ارتباكه حينما أصر ليحمل من جهة رأس القاتل.. ظانا منه أن صاحبه قد علم بذلك لكنها...الأقدار...ولطف الله...ومشيئته ..
بدأت البطانية تتململ ثم خرج منها الشاب المتمارض... بل والمتماوت ، وبيده بندقية لكن هول المفاجأة تركته مرتبكا يتصرف كمذهول فاقد الوعي ، وجدت رجلاي تقودني نحو سيارتي مسرعا ، أخرجت منها مسدسي وانبطحت خلف هذه الصخرة كما ترون .
وقف الناس مدهوشين لما سمعوا...هل هم في حلم أم في حقيقة ؟
ران صمت مطبق على الجميع وهم ينظرون نحو اللصوص القتلة وكل منهم يلقي بلومه على الآخر.
- لقد وقع الفأس في الرأس ، وقتلت ولدي أيها الأبله .
- لقد كررها لي ألف مرة إنه سيحمل من جهة الرأس لكنه غبي مثلك .
- بل أنت الغبي أيها الأبله ، أيها المجنون هل كنت مغلق الآذان أم شارد اللب ، حينما حمل الرجل من جهة رأسك ودفع به ليحمل من الجهة الأخرى .
- كفاك ثرثرة وكلاما لا طائل منه ..... هيا ننقله إلى المستشفى ...
_ أي مستشفى أيها العجوز؟ ومن سيساعدنا بعد هذا ... ومن ثم لقد سكن ومات .... ونزف دمه وشبع موتا .
- لعنة الله عليك أيها المنحوس .... إن حياتك كلها شؤم وتعاسة ... دائما نسميك طويسا لشؤمك ... لكني أنا المجنون حين وافقت على خطة يشترك فيها وينفذها طويس مثلك .
هيا إحمله على ظهرك أيها الشئيم واصعد به الجبل أيها المجرم لندفنه في القرية .
تمتم أحد المتحلقين ليقطع الصمت الذي خيم على الجميع....
صدق العظيم الله القائل في كتابه العزيز:
"ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله" .
* الاسم : محمد حسن فقيه
الجنسية : سوري
الشهادات : بكلوريس هندسة مدنية ، ماجستير جيو تكنيك
: ليسانس دراسات إسلامية ، ماجستير فقه