من أجل إناء

من أجل إناء

لبنى ياسين/دمشق

[email protected] 

       منذ نعومة أظفارك و أنت تعمل كثور مربوط إلى ساقية , عرفت  ماذا تريد من  الدنيا منذ ذهبت مع أمك إلى الطبيب , عيادة نــظيفة هادئة و ســـكرتيرة تـــــدون له المواعيد و تعامله بتبجيل و احترام نادرين , مرضى يدخلون إليه و هم ينتظرون الحكم على حياتهم و صحتهم الذي سينبعث من بين شفتيه , الفقير و الغني , الكبير و الصغير , المدير و العامل , السيد و الخادم ... كلهم يحتاجونه ... يحترمونه ... يخشون سطوة أحكامه , و يخافون الدخول إلى عرينه الأبيض , و إن فعلوا ... فعلوها مضطرين اضطرارا قد يجعل الفقير يجوع أسبوعا لأجل أن يعطيه أجرة الكشف , خرجت ذلك اليوم من العيادة و أنت تعرف تماما انك ستصير طبيبا , مهما حدث ستصبح طبيبا... لا شئ إلا طبيب , لن يناديك أحد بالطريقة التي يفعلونها مع أبيك ... لن  تسمح لاحد بذلك أبدا , أبوك الرجل الطيب الفقير المتعيش على باب الله , كلما أراد أحدهم تعزيل حمامه نادى أبا صالح , كلما كان هناك حاجة لتنظيف المدافئ و أنابيبها المعدنية الذاخرة بتلك الذرات الحالكة السواد نادى أبا صالح , كلما طافت المجاري بمياهها الأسنة أتوا بابيك مترفعين عن الخوض في قذاراتهم الشخصية , فتكون القذارة من نصيب أبيك فقط مكللة بنظرات الترفع والازدراء  و أبوك يجري فرحا لتلبية طلباتهم إذ أن ذلك يعني أن ورقة نقدية لا بأس بها في طريقها إلى جيبه اليوم .

     بعد مشادة عنيفة دارت بينك و بين أحد المتبجحين في المدرسة , سخر فيها الأخير من أبيك بعد أن نظف لأهله مجاري منزلهم الفاخر ... طلبت من أبيك أن ينقلك إلى مدرسة بعيدة قليلا عن حارتكم , مدرسة لا يعرفك فيها أحد و بالأحرى لا يعرف أي إنسان عن أبيك شيئا, و هذا ما حصل , حرصت بعدها أن لا تعطي عنوانك لأي إنسان , و لأجل هذا لم تدع لنفسك فرصة الحصول على صديق مقرب إذ أن هذا من شأنه أن يفتح بابا للحديث و الأسئلة بل و حتى الزيارة و هذا ما حدا بك إلى أن تقصر علاقاتك الاجتماعية على إلقاء تحية باردة لا تشجع أحدا على المضي قدما في أي حديث معك.

     و لأنك كنت تعرف طريقك تماما فقد اجتهدت و تعبت لاجل أن تصبح طبيبا , كانت صورتك و أنت ترتدي ذلك المعطف الأبيض تدغدغ مشاعرك فتترك طعما حلو المذاق  كلما فترت همتك قليلا ,و تشد أزر رغبة دفينة لديك بأن تصبح محترما ... فبالرغم من أنك كنت تحترم جميع سكان حيك , إلا انهم كانوا يبادلون  احترامك لهم بازدراء عال ِ التوتر , كيف لا و أنت اقلهم مركزا و نقودا بل و حتى قامة  كل حلمك كان ... أن تصبح إنسانا محترما.

     الآن... في هذه اللحظات بالذات يتزعزع لديك مفهوم الاحترام , لم تعد تدري ما الذي تعنيه هذه الكلمة بالضبط , تتردد في ذهنك جملة الرجل : (لم تحترم الثقة التي أوليناك إياها ) فيدق قلبك  فزعا و أنت تحمل حقيبتك و كتبك لتنتقل للعيش في مكان آخر و أنت في السنة النهائية ...  مشروع ناجح لطبيب نال درجة الشرف في جامعة ألمانية تضع العلم في المرتبة الأولى , لم تفهم ما الذي جرى حتى تقوم تلك العائلةـ التي ظللت مستأجرا لديها غرفة سكنتها منذ دخلت هذا البلد ـ بطردك شر طردة دون أي احترام؟ حتى أنها لا ترغب بتواجدك معها مطلقا و أنت الطبيب المحترم و أبوك خلف بحار  سبع لا أحد يعرف عن مهنته المتواضعة شيئا .

     حدث الأمر البارحة مساء حين كان الأبوان في طريقهما لحفلة عند بعض الأصدقاء فطلبوا إليك أن تقوم برعاية صغيرهما ذي السنوات السبع حتى يعودوا من السهرة , لم تكن تلك المرة الأولى التي تقوم بهذه الخدمة المجانية لهما إذ انهما احتضناك كما لو كنت أخا أو ابنا لهما و عاملاك  بطريقة رائعة , كنت تشعر بالزهو وتقول لنفسك : بالطبع عليهما أن يحترماني فخلال بضع سنوات اصبح طبيبا , و زاد من هذا الفخر مرتبة الشرف التي كنت تحصدها سنويا بجهود جبارة لئلا تضيع منك , فهي بالإضافة إلى كونها ستحقق لك احتراما إضافيا , تعفيك من أجور الجامعة التي تقصم الظهر و التي اضطرتك في السنة التحضيرية للعمل ما يفوق الثمانية عشر ساعة لاجل تلك المصاريف .

و اليوم تغير كل شئ.

      طرق صاحب المنزل باب غرفتك في الصباح المبكر على غير العادة ,  و عندما فتحت له الباب فاجأك بوجه متجهم تشي ملامحه بأن كارثة كونية في طريقها للوقوع , نظرت إليه و سألته : ماذا هناك ؟؟ أجابك الرجل : أرجو منك أن ترحل من هنا فورا فلم يعد مرغوبا بوجودك بيننا ,صعقت و لم يستطع عقلك أن يرسل إليك أي تفسير  فقلت: لماذا .. ماذا جرى؟؟

قال الرجل : لقد عاملناك كواحد من الأسرة و لكنك لم تحترم تلك الثقة التي أوليناك إياها .

صرخت: بالله عليك لا تتحدث بالرموز ؟؟ قل لي ماذا فعلت؟؟

قال الرجل: لقد اخبرنا ابننا جون بكل ما جرى البارحة .

"ماذا؟؟"

نعم لقد اخبرنا بكل شئ و لهذا لم يعد مرغوبا بوجودك هنا ...

"لم أفهم"

الإناء الكريستالي الذي كسره جون  فبكى لان أمه تحب ذلك الإناء و سوف تغضب منه لأنه كسره ...

كنت تنظر بذهول إلى الرجل !!!

أكمل :

لقد علمته الكذب و أوحيت إليه بالا يتحمل نتائج أفعاله  باقتراحك عليه بان تقول انك أنت من فعلها , لكنه في الليل لم يستطع أن ينام... لم يستطع أن يتعايش مع كذبته حتى الصباح  فأيقظنا و اخبرنا بالحقيقة.

      كنت تجر حقيبتك و خيبتك و رجليك على الأرض و معهم بقايا أوجاع ابن أبى صالح و أنت تشعر أن جميع سكان حارتك القديمة ينظرون  إليك باستهزاء و ازدراء و أنت  الذي كنت تعتقد انك بمجرد أن تصبح طبيبا ... ستتكلل بالاحترام  , و يصرخ في داخلك صوت أبيك الخفيض الهادئ : ليس من أجلي هذه المرة إنما من أجل إناء .