" ما يشبه الوحم " ..

" ما يشبه الوحم " ..

فاطمة المزروعي

  [email protected]

يد صغيرة ، بضة ، تهزها ، توقظها ..

- أمي مابك ؟

تتأمله لحظة ، ثم قالت ، وعينيها تبحث في أرجاء شقتها :

- ألا تسمعه ياحبيبي ؟ إنه صوته ، إنني أسمعه .

يضحك الصغير ،  يبدو وكأنه قد فهمها ، يحك رأسه قليلا ، يفتعل حركاته ، يقلدها في حركة رأسها ، يبدو أنه ينصت للصوت مثلها :

- تقصدين صوت السيارة التي مرت قبل قليل يا أمي ؟

لاتجبه ، فيقتنع في داخله بأنه لم يعطها الجواب الصحيح ..

- ربما سمعت صوت صراخ صديقي  " أحمد " ، أتوقع أن أمه ضربته لأنه فعلها في ملابسه ، و    " ياسمين " أنها تغني بصوت عالي ، أن صوتها جميل ،إنه يعجبني ..

راح الصغير يخبرها بكل الأصوات التي سمعها منذ الصباح ، وهي في عالم آخر ، كان الخوف والتردد واضحين على ملامحها ، لقد سمعته وهو ينادي عليها مرارا ..

احتضنت صغيرها إلى صدرها ، فأطلق صرخة وهو يحاول التملص من بين أصابعها ، كانت تضغط عليه بقوة دون أن تشعر ، وقف أمامها ، يحملق فيها ..

أمي مابك ؟

نعم مابها ؟

ما سر هذا التغير الذي أصابها ، تبدو مريضة وساهمة ، الهالات السوداء التي  تطاولت حول عينيها ازدادت بغتة ، الشحوب التي اعتراها فجأة ، الأصوات التي تسمعها في كل مكان ..

منذ رأته ..

هو السبب في كل ماحدث لها ..

ذلك الشاب ، ابن الجيران الجدد الذين سكنوا المنطقة منذ فترة قريبة ، الذي سارع بنجدتها حين سقط ابنها أرضا ، وأصيب في رأسه ، حمله في حنان إلى المستشفى ..

عند ذلك تذكرت الصوت الذي سمعته ، عندما اقترب منها ..

أنت جميلة ..

التفتت تنظر إليه ، ولكنه كان هادئا ، صامتا ، رزينا ، وعينيه تحملقان في الصغير، ورفعت رأسها تنظر يمنة ويسرة ، أغمضت عيناها ، وأبقت جفناها حتى تستعيد وعيها ولكن الصوت عاد فجأة ..

انظري إلى جمالك ، أنت تستحقين رجلا ..

هذه المرة قفزت من مقعدها كالملسوعة ، والتفتت تنظر إلى ممرات المستشفى ، لم يكن هناك  سوى الممرضات وهو واقف معهن يتحدث مع الطبيب عن حالة ابنها ، وشعرت بالخجل من نظراتهم وانزوت في مقعدها ، والشحوب قد اعتراها وبشدة ..

استسلمت تماما وهي تسير خلفه ، كان يحمل صغيرها ، والصوت يعود إليها ، يخترق رأسها..

لاتستسلمين هكذا ، أنت رائعة ..

رفعت رأسها بسرعة ، كان الصغير في حضنها ، وهي في الشقة ، تطلع من نافذتها إلى الشارع ، حيث شقة جارها الشاب ، أسرعت إلى مرآتها ، عدلت من شعرها ، مررت أصبع الروج على شفتيها ، اقتربت من النافذة ، خفق قلبها ، شعرت بدقاته تتجاوز أمور وتفاصيل عاشتها في مرارة منذ وفاة زوجها..

تجاهلت نظرات الجارات الحاقدة ، الهمس المصوب إليها ، لأول مرة في حياتها ، تخلت عن خجلها  والعادات والتقاليد التي تربت عليها ، وأسرعت تتقافز من على السلالم ، دون أن تنتبه للوجوه التي تطالعها ولا الأصابع الموجهه إليها ، ووجدت نفسها تقف وجها لوجه أمام جارها الشاب الطالب ، الذي تفاجئ بها..

وحملقت به في حزن وتعب ..

والوجوه حولها ، تصنع دائرة من دوائر الحياة ، بكل المشاعر المختلفة التي عرفتها ولم تعرفها..

وهمست ..

وكان همسها عاليا ، اجتاز البيوت والنوافذ ، وأذان الجارات والجيران ..

أنا أحبك ..

وحملق فيها ..

ثم سقطت كتبه وأوراقه على  الطريق ...