أوربة خائبة

أوربة خائبة

سامي العباس

[email protected]

كان صمت وقور يلف الردهة المبلطة برخام سكري ذي لمعة خافتة. وقد تضافرت جهود عدة لصنع مثل هذا المشهد الرتيب لحياة تفرمل نفسها. فاللون الأبيض الناصع لأردية الأطباء والممرضين كان يضيف نفسه إلى لون الردهة كما تضيف نفسها إلى سلَّم رغبة مفاجئة بالصعود. أو كما تسند لهجة قاطعة أمراً شفهياً يشق لنفسه طريقاً نحو التنفيذ. وكانت أرجل المقاعد المقيدة إلى أرضية الردهة تمارس قمعاً صامتاً في مواجهة الرغبة بالتململ التي يغذيها نفاذ صبر راح يأكل أعصاب المرضى الجالسين.

من النافذتين المغلقتين كان يدخل نور الشمس بكياسة بعد أن يستأذن زجاجهما السميك ثم يلمع بحذر على الأرضية المبلطة، وعلى منجور الألمنيوم التوتيائي الشاحب. بين المرضى كانت تدور أحاديث غامضة يمكن للأذن بين الفينة والأخرى أن تلتقط ما يشبه كلمة مستشفى. لكن حرف الشين ما يلبث أن يوسع صلاحياته محيلاً كل شيء إلى وشوشة تضيف نفسها إلى بقية عناصر المشهد, لتصنع مجتمعة هذا المناخ المميز لمستشفى حكومي متأورب, يرمق مرضاه الشرقيين بنظرة أبوية صارمة. و فجأة دلفت إلى ردهة الانتظار. كانت تمسك بكفها خاصرتها اليمنى وتتكئ بيدها الأخرى على كتف ممرض بدى قصر قامته فاضحاً وهو يسير بجوارها. منذ البداية بدى دخولها اقتحاماً عدائياً للمشهد, فطولها الفاره _رغم اضطرارها لأن تحني كتفيها قليلاً بدفع من أوجاعها _راح يمارس نقداً موجعاً لسقف الردهة الذي اقترب على نحو خطر من هامتها الملفوفة بإزار مرقط بالأسود الفاحم. لكن جلوسها أنقذ الموقف إلى حين. فبدا تنازلاً يود أن يقدم نفسه عربوناً لرغبتها في فتح حوار ودي مع المشهد.

همست بشيء ما إلى ممرضها الذي كانت تصرفاته تشي برغبة حارة في التفلت من موقف حرج. فاكتفى بأن هز رأسه عدة مرات مؤكداً موافقته على ما تقول. ثم قمع مبادرة بالانصراف، عندما عادت إلى وشوشته بحميمية أشفعتها بتأوهات خدشت الهدوء المتفق عليه.

لكنه ما لبث أن غادر الردهة بخطوات كتيمة بعد أن كرر إحناء رأسه طمئناً وموافقاً على شيء ما.عندها أدارت في الجالسين عينين حطم الألم فيهما الرغبة بالتمحيص وأحال نظراتهما إلى ما يشبه الملامسة العفوية للموجودات ثم أطرقت محدقة في حجرها.مضت برهة قصيرة قبل أن تعاود إمساك خاصرتها اليمنى في محاولة للسيطرة على دفقة جديدة من الألم، التوى تحت تأثيرها وجهها الخاضع لشيخوخة مبكرة .وعندما أدارت في الجالسين نظرة استغاثة تائهة كانت أسنانها تعض على شفتها السفلى المرتعدة.رغم ذلك نجحت صرخة في الإفلات فبدى أن هذا الانسجام الذي يشد عناصر المشهد قد بدأ يواجه مشاكل تهدد تماسكه . إذ علت بين المرضى همهمة تعاطف راحت تعلو وتهبط كقارب شد إلى المرسى لكن نواح الريح والموج يدعوانه إلى التفلت. ولقد شجعها هذا التعديل الطفيف في مزاج المرضى , على التخلص من قيود بقية المشهد فانطلق صوتها رناناً في الردهة والممرات النظيفة المعقمة, مستفيداً من قدرة كليهما على التجاوب مع حنجرة أطلقت العنان لموهبة فطرية صقلتها أربعون سنة من التعامل مع الجبل والفضاء الفسيح.

- يا عالم..... يا ناس..... كيف لا يعرف الإنسان وجعه.. !؟ يظنون أن الفلاحة بهيمة.. طيب.. حتى البهيمة ترفع قدمها الموجوعة وتمشي على ثلاث.

كان صوتها يرن واثقاً في الردهة والممرات. وكان منطق بسيط كما هي لحقيقة في معظم الأحيان يمد لسانه ساخراً. للأردية الناصعة البياض ولربطات عنق الأطباء المحكمة الشد. وللحصانة العلمية وهي تمسك بالأطباء وبجدران المستشفى من التداعي.

- قلت لهم ألف مرة وجعي في خاصرتي اليسرى ففتحوا لي اليمنى واقتلعوا مرارتي.. آخ.. آخ.. يا ويل حالي... كنا بوجع واحد.. صرنا اليوم باثنين.

وشيئاً فشيئاً اهتدت إلى المقام المناسب فراحت تترنم وتهز رأسها باكية.

كنا بوجع واحد... صرنا اليوم باثنين.