على جناحي ذبابة
على جناحي ذبابة
ماجد رشيد العويد[1]
كنت أعلم أنني ميت، وأنه سقط في بحر جنونه. ينطلق إلى غاياته الحبلى بالشرور، دون أن يعلم أنه إنما يتجه إلى موته. يأكل ويشرب كالبهيمة. وكنت أتجه نحو غاياتي بهدوء مع علمي بأن الأحلام عُلقت من عراقيبها كما البهائم.
الناس كذلك وقعوا مغشياً عليهم. لقد تم ذبحهم بأحلامهم الصغيرة، فعلّقوا من حاجاتهم البسيطة على خلفية أحـلام ليل مشحون بالتعب، ومكتظ بالقلق. كذلك زوجتي عُلقت على حبل عفّتها، ولم ينفعها استجداؤها إياه. قالت له: "لأجل الله دعني" وكان يضحك. أما الصغار فانتشر صراخـهم داخل جدران كتيمة، امتصت إلى جانب الهواء استغاثات أمهم.
حملني إحساسي المتفاقم بالفجيعة، على الزهو بيقيني المتألق بوجود عالم آخر. هذا ما انتهى إلي عبر تلك الاستغاثة المخنوقة بدموعها، وهي تستعطفه. قال لي: أنت ميت، ولن تخرج من هنا. وقال لها: أنت غنيمتي.
تحت ضغط الانهمار المتزايد لكلماته على رأسي، انتابني الإحساس بأن انفجاراً حصل في هامتي التي خرج منها طائر كأنه العنقاء، ما لبث أن طار موزعاً ريشه الأبيض فوق الرؤوس، وفوق الرمال، ثم ما يلبث أن ينبت له ريش جديد.
كنت أتحرك داخل زنزانتي في غير انتظام. على مرأى مني تُذبح زوجتي. كنت لا أملك إلا أن أصرخ، وأنا أراه يعرّيها من عفتها وأمومتها.
لحظتها آمنت بأن العالم قائم على قرني ثور، بل ربما على جناحي ذبابة. تصوروا عالماً قائماً على جنـاحي ذبابة؟!! وبرغم هذا الواقع الحرج الدقيق، فإنه عالم مشاغب، مترع بالجريمة والأسر، مملوء بالدم. على أنـه برغم ما سفك من الدم، فإن نوعاً من التوازن ما يزال قائماً. ولذا فإنه لم يزلزل بعد تلك الزلزلة التي تفصم عراه، وتقصم ظـهره. وعليه فالفضل لا يعود إلى جناحي الذبابة، وإنما إلى تلك الشعرة التي أقامت التوازن بين أطرافه.
سألني محاولاً استفزازي:
ـ ما بال عقلك.. هل نُخر؟
أجبت حانقاً بعض الشيء:
ـ ربما ولكنك لن تجد مني أكثر مما وجدت، فارحـم نفسك. ثم أردفت: ما بالك تأسرني، وتضع القيد في يدي، والعالم ليس أكثر من طرفة عين خرجت بمكر على الحقيقة الأولى؟
وقال لي مجيباً:
ـ ليس العالم كما تصف، وإنما وصفك يصدر عن يأس أو عن جنون، أو عن حياة آفلة.
صمت قليلاً، ثم تابع:
ـ ما رأيك لو شددتك إلى حياتك الذاهبة بكل رخائها، وقذفت بك إلى الفرات؟
كانت كلماته تشي بالانتصار. هكذا تبدت لي، وما تجلّى في وجهه من الأمارات دلّني وبشكل قاطع لا يقبل جدلاً أن الرجل مسربل بالتفاصيل، يعنى بها دون الكليات، وأنه مشدود إلى أوهامه بإنشاء مملكة من ممالك القرون البعيدة، وأنه لا يتعدى أن يكون خرقة مبلولة بالضعة. نظرت إليه بقرف، ثم حوّلت عنه بصري باتجاه الأرض، وبصقت بصقة تحوّلت إلى بحيرة أغرقته فيها، وعلى إثرها فقدت أحد أصابعي بعد أن قطعه بأسنانه.
كان الوقت نهاراً، الشمس ساطعة، والناس يلهثون، يبتسمون، ويضحكون، ويعبسون، وعبر لهوهم يبكون في مهرجانات لا حدّ لامتدادها. لم أبال بالذهول المنشور على الحدقات، وعلى الشفاه المتباعدة، فمنذ ألمّ بي أسره، والسؤال يستبد بي كيف أكون كائناً مستمراً، يتدفق مستقبله في ماضيه ويبقى الماضي في حالة فيض حاضرة؟
ـ لا تطمع بأن نفك أسرك.
تمنيت فـي هذه اللحظة، أن أوجه إليه لطمة فيتفكـك ويتفتت، ثم يتساقط ذرات على أرض الشارع أدوسها بقدمي، وأسحقها وأنا أكز على أسناني.
تابع قائلاً:
ـ لو تعاونت معنا لأرحت واسترحت.
الحياة في الزنزانة، وبالاعتياد، حملتني على الإيمان بما بداخلي. لم أعد شديد الاهتمام بوقع السياط على ظهري، حتى وفاة زوجتي لم تعد تثير فيّ الاهتمام. أصبحتْ جزءاً من أفكاري التي امتلأت بها. قلت له:
ـ لا تتعب نفسك..
أحسست أني لم أكمل كلامي، عندما استقرت قبضته في بطني. وبرغم تماسكي الشديد صرخت من شدّة الألم. انحنيت بجذعي إلى الأمام، لأتلقى الضربة الثانية على رقبتي فأغمي علي. كنت ملقى على الأرض عندما أفقت من غيبوبتي وهو يدلق الماء على وجهي، وقبل أن أتمكن من إتمام شهقتي على إثر المياه الباردة أمسك بقميصي من الأعلى وقال بغضب شديد:
ـ لتعلم أنك في ضيافتنا إلى ما شاء الله.
كانت كلماته تثير حفيظتي، وكان لابـد من التماسك، فأجبت:
ـ ليكن..
قال هذا ثم اختفى. نظرت حولي فلم أر أحداً. فجأة خلا الشارع. مات الصخب وولد لحظتها هدوء حذر ملأ جنبات المكان، ولبسته الأبنية وحلّ ظلام، تنـاثر الضوء في كيانه، عندها، وبالذات حال حلول العتمة، اقشعر بدني. تلفّت حوالي، لا أحد، لا أحد البتة. لم أكن أسمع غير حفيـف السكون. نظرت إلى أسفل فإذا حشرة بغيضة تبرق في العتمة، مدببة الظهر تمشي إلى جانب قدمي، فسحقتها به وأخرجت منها أحشاءها الصفراء التي لوثت أسفل بنطالي ثم سوّيتها بالأرض. صحت بأعلى صوتي إنها حشرة لا أكثر، ولسوف أسحق أمثالـها. لم يسمعني أحد، لم أر باباً يفتح، ولا نافذة. لعل الناس كلهم أنصتوا إلي، وسمعوني، وتمثّلوا كلامي، ولم يخـرجوا خوفاً منه أو إهمـالاً لي. أغاظني هذا الاستنتاج، فحملت حجراً وقذفت به أقرب نافذة وسمعت لسقوط زجاجها صوتاً أحسسته هـزّ المكان بكامله. انفجرت ضاحكاً، وعدوت راكضاً أهز يدي في حركات تشبه تلك التي للكبار من السادة.
الليل ما يزال يتساقط، وأنا ما أزال بين مشي وعدو. سلبوها عفّتها ليقتلونني. هذا ما قاله لي، نفذ وعيده، وأباح لنفسه ما ليس ملكه. كنت داخل المربع الضيق يسوقني جموحُ من فقد القدرة على عمل شيء. كنت أراها تُذبح أمامي، يفصلني عنها باب حديدي تعشّقت قضبانه بالحقد. تستنجد بي ولا أملك أن أفعل لها شيئاً، بينما هو يضحك. لم يصغ إلى صراخ أطفالها في صراخها على العكس من ذلك، كان يلتذ أيما لذة وهو يراها أمامه وتحته كالمذبوحة، ويزداد جنونه وهو يسمع صياحي وهياجي.
لقد شطروني كما شطروا البلد، وأذاقوني العذاب ثم قذفوا بي إلى الفرات، إلى شطّه الغريق. قال لي آمراً
ـ انس.
وهل أملك أن أفعل؟ إن نسيتهم لم ينسوني. لا، بل أريد أن أنساهم، وأن أجعلهم جزءاً من الذاكرة التالفة، ولكن.. يا الله لا أستطيع لقد أكلوا معي وشربوا، قبل أن يقتادوني ذات ليل أسود بهيم. لم يرأف بصراخ الأطفال، قال:
ـ لا تخف إنهم يضحكون، لقد اتخذ الضحك طرقاً جديدة للتعبير عن نفسه، وأولادك أذكياء، انظر إليهم لترى كم هم على ذكاء نادر. ودّعهم فلعلك لن تراهم بعد اليوم.
شيء ما داخلي وخزني، ثم ملأني بانقباض لم أشهد مثله حتى أيام التواري خلف التلال، وفي القرى البعيدة، ولم أشهد مثله أيام التنكر. كان انقباضاً مؤلماً، جارحاً، جفف البسمة وأذاب انشراحاً محتملاً. لا أراهم؟!! كيف يكون هذا؟ ولكنه صار وكان ، ولم أرهم. ذابوا تماماً بين حيطان أربعة، وتحوّلوا إلى حبر أكتب به التاريخ والأيام على الجدران، ثم جفّ الحبر وجفّوا.
لم تكن الظلمة بغيضة بالنسبة لي، فلقد عشت في كنفها سنين طويلة، ثم خرجت منها مظلم القلب، بلا روح. ولم لا لقد سحقت الآن حشرة بظهر مدبب، ولسوف أسحق من بعد أخرى بأربعة وأربعين رجلاً، ولعلي يوماً سأسحق حماراً، ولكن لا … قالوا لي يوم اقتادوني: هل تعلم من أنت؟ ولما لم أرد أجاب أحدهم: أنت كلب، ثم استدرك قائلاً: بل أنت حمار، ثم كوّر قبضته وانهال بها على عيني اليسرى، فسحقها في محجرها. أما عيني اليمنى فبرغم احمرارها الدائم، وبرغـم العتمة فلقد أبصرت بها، وبوثوق تام، جرادة حطّت على قميصي، أفزعتني قليلاً ثم دفعت بها إلى الأرض وسحقتها. سأسحق كثيراً من الحشرات هذه الليلة، فأنا الآن في اليوم الأول من التاريخ الجديد بعد الرقدة الإجبارية في كنف الحجز الاحتياطي، اليوم الأول من الحياة الأخرى. ولعلي الوحيد الذي عاش حياتين على الأرض. ولدت صارخاً ومت مقهوراً ثم ولدت تائهاً، على أنني يجب ألا أكون في التيه فسمتي واضح وبوصلتي إليه واضحة، إيمان راسخ بأن العالم يقف على جناحي ذبابة، وغداً صباحاً سأرى ذباباً كثيراً فالدنيا هجير والذباب كثير.
لم يكن بيدها ما تفعله، كذلك لم يكن بيدي ما أقوم به. اصطادوها ثم قتلوها. ولكن أين تـراها دفنت؟ ربما لا قبر لها فالقبر علامة والعلامة شاهد، ولذا فلابد أنهم واروها الثرى من غير علامة، أو لعلها المياه شربت رميمها.
ضحك ملء فمه وقال:
ـ لا تنتظرها، لأنه لن تراها.
داهمني الشعور بالقرف فتقيأت فضالة الإحساس به. تخيلت أني أقول له: تعال سأريك.. سأشق جوفي، وأملؤه أمامك بعالم مباين، علوي اليقظة، بعمر أطول من طرفة هالكة. تعال أريك بأن إحساسي بموت خوائي كان وثّاباً، وقّاداً، تعال أكشف لك وهن شعورك، وإحساسك الفاتر بحياتك الهزيلة، تعال أدلك على عجزك، وعلى أنك تحيا بعقل سمل خرب، تعال أيها المجنون اللئيم.
أخرجتني عن طوري ضحكته الداعرة، فقذفته بحجر فجّ رأسه. قلت له: هذا جزاؤك. عند هذه اللحظة، وبينما رأسه يفجر دماً، قال لي:
ـ أنت حمار، ولن ينفعك نهيقك.
صُعقت، وأنا أبصر ظلمة الشارع، وعتمته العميقة تسكن أربعة جدران ضيقة عفنة، تضغط على الرئتين، عندها تماماً تكسّر زجاج مرايا أعطانيها قائلاً لي: انظر إلى وجهك كم هو جميل. تراجعت قليلاً ثم تابع:
ـ أفضل حالات الرقاد تكون بحز الرقبة، وترك الدم يسيل حتى ينضب.
أناخ رأسي باتجاه الأرض، أدناني من سطحها ملتقطاً قطعة من الزجاج المسنن الذي انهمر بكثافة. أدنى القطعة من رقبتي، وراح يحزّها. لم أكن أشعر بالألم، بل كنت كمن يمتلئ بروح أخرى. سال دمي، وتدلى رأسـي ومعه تدلّت عفّة زوجتي، وصراخ أطفالي. عيناي تحدقان بالأعـلى البعيد، في سهـو لذيذ، وآن انتابني هذا الإحساس، وفي غمرة توقّدي الحالم بالرقدة الخالدة، اندفعت يداه تضغطان على الصدغين وتفصلان عن الجسد رأساً مثقلة بعالم قائم على جناحي ذبابة، رأساً سالت منه الدماء وجفّت مع صراخ أطفال مكتوم داخل مربع ضيق.
[i] أديب سوري