وأخيراً رأيته
وأخيراً رأيته
ماجد رشيد العويد[1]
وأخيراً رأيته بعد خمسة عشر عاماً، كأنما وجهه انشق عنه التراب ملآن بالحيوية، كأنما لم يكن بالأمس ميتاً. وجه نضر، يفترّ الثغر منه عن ابتسامة ملأى بالحنو، والجسم المسجّى كأن لم يتآكل، وكأن الموت ظل بعيداً عنه لا يقترب منه. ولطالما قال لي: أنا لن أموت لأن في الأحشاء مني نمت أفكار لا تموت، ولسوف تكون دمَ جسدي عندما يقبع تحت التراب. وهأنذا أراه في حلّة بهيجة مزهوّاً بالحياة، تنتظم أنفاسه، ويعلو صوت شخيره الهادئ وأمدّ إلى كتفه يدي الوجلة، وأهزّه هزّاً خفيفاً أول الأمر ثم ما ألبث أن أهزّه هزّاً قوياً، فيصحو بهدوء صحواً، ممتلئاً نضارة، من رقدة الهلاك المفزعة والمثيرة. ومن بين أعطاف الدهشة والذهول أصيح يا الله… وقبل أن يُغمى عليّ أحاول الهرب فتخونني قدماي. وتبدأ أطرافي تصطك بعضها ببعض.
حاولت كثيراً وصف تلك اللحظات الحية الساخنة، وخانني قلمي، لم أيأس، وقلت لا بد أن أنجح يوماً في نقل تفاصيل تلك الرحلة الموحشة.
- هذا أنت؟!!
قالها باسماً. غير أن شحوباً شربته ملامحي، ورعباً استقر في نظراتي، منعاني من الردّ. حرت في الطريقة الملائمة التي أردُّ بها. كان يجب أن أقول هو أنا، غير أن هول المفاجأة قيّد لساني، وسطّح رأسي. حاولت أن أستجمع قواي لأقول نعم أنا هو، ومن بين رغبتي في الكلام وبين التلعثم، خرجت " أنا " مبعثرة، ممزقة.
لم تكن تلك السنون وهماً، ولا شيئاً كالحلم. كانت وما تزال ناراً تشتعل بها الذاكرة، فتنهال الذكريات ساطعة وإن شجيّة ذكريات غُذّيت بالماء الفرات، فظلّت تستعذبها الذاكرة، وتلتذّ لمقدمها رغم تباعد السنين. بعد حين قلت:
-نعم أنا
_ لم أرك منذ زمن بعيد، فأين كنت؟
وقلت له:
-خمسة عشر عاماً لم ترني، ولم أرك. ولكن أنت من يجب أن يحدّثني لا أنا.
وردّ بفتور:
-ولكني متعب. كنت أعيش نوعاً من حياة الفرار، الكل يفرّ من الكل، ولذا فأنا متعب، متعب تماماً. فهل لك أن تحدّثني عن غيبتك؟
ورددت بعصبية:
-ولكني لم أغب. كنت أنت غائباً يا صاحبي. أنا هنا ما أزال بين ظهراني هذه الحياة،
وقبل أن أتابع قال:
-ومن قال لك إني كنت خارجها، أما تراني أمامك في أحسن حال؟.
ولكن كيف؟
كيف يكون هذا، وأنا لم أمت بعد؟. كيف وقد دفنته بيديّ هاتين، وأهلتُ فوق قبره مع المهيلين التراب، وقرأت الفاتحة على روحه. كنت بأصابعي أضغط زرّ المسجل فينطلق الترتيل العذب، بل أذكر اكثر من هذا.. أذكر أنني كنت أضع في الآلة سورة مريم وبصوت عبد الباسط، وكثيراً ما ارتعدت أعطافي عند سماعي آية "وإن منكم إلا واردها كان على ربّك حتماً مقضياً ".
إنّ في الأمر لغزاً. أن نكون معاً في سجلّ الحياة، يعني أنني لم أقم بدفنه يوماً، ولم أبكه ساعة من نهار، وما مشيت إلى الفرات، خائر القوى، مجهد الذاكرة. هذا مُحال. قلت لعلّني في حلم، ولكن كيف أكون كذلك وهو أمامي من لحم ودم يبتسـم ويتكلّم، وفوق هذا جسسته بيديّ، إنه حقيقة لا حلم
قلت له:
_لعلك كنت مسافراً خارج المدينة؟
-على العكس، فأنت أدرى بي. فأنا لا أحب السفر ألا تتذكر؟
-أتذكر ماذا؟
-ألم أكن أقول لك، إن السفر انتقال، وفي الانتقال موت
وقلت له:
-بلى أتذكر، وكنت أقول لك "اغترب تتجدد" هذا ما قاله الشاعر يوماً.
-لا يهم ماذا كنت تقول.. المهم كيف أفهمُ السفر. ولهذا لم أغادر مدينتي - وأنا كما تعلم على مشارف الخمسين-إلى هذه اللحظة. وفوق هذا أذكر جيداً أنني طالما قلت لك إن بعد الموت جحيماً لا يُطاق، وليس لنا من أفعالنا ما يؤهّلنا لذلك الفردوس العجيب. واعلم أني ما أزال أخشى النار ولذا لا أريد أن أموت … والآن قل لي أين كنت طوال هذه الأعوام
وأجبت بما يشبه اليأس:
-أظن أني لم أغادر هذه المدينة ، تماماً مثلك.
لم أعد أعي ما أسمع، وكأنّ رأسي تصدّع. إن ما أسمع لهو من الأحلام، أو من أضغاثها. كيف لم يمت وإن لم يمت، فمن الذي قمنا بدفنه ذات يوم، ثم أنني البارحة.. البارحة بالتحديد كنت أقرأ له الفاتحة وقرأت ما هو مكتوب على الشاهدة…
في اليوم التالي عدت إلى سورة مريم، وقرأتها آية آية، ومع كل آية كنت أتذكر من مأتمه، موقفاً أو حالة أو معزّياً. ولم يخالجني الشك لحظة واحدة، وأنا أصل إلى الآية "وإن منكم إلا واردها…" في أنه ليس ميتاً. لقد مات ولا ريب في هذا، وكنت من الذين دفنوه، ثم خطر لي خاطر، أجفلت له جفولاً شديدا اقشعرّ له بدني، أهي معجزة؟ هل عاد حياً من بعد موت؟ وسعيت جاهداً لاقتناص لحظة من هدوء. ولمّا رأيت أنه استقرّت مني الأعطاف والجوارح قلت هذا لا يكون لبشر.
عصراً ذهبت إلى المقبرة، وبآلية تامـة توجهت إلى حيث قبره. قرأت "المغفور له الشاب عبد المهيمن".
تلفّت حولي كالمصعوق، وتساءلت فمن إذن الرجل الذي أفاق أمامي من رقدته العميقة إن لم يكن عبد المهيمن؟
عدت من المقبرة متوجهاً من فوري إلى بيت أهله
سألت:
-هل عاد عبد المهيمن؟
وحدجتني الوالدة بنظرة غريبة
-هل أنت مريض؟
-وهل ترينني كذلك؟
-إذاً فما معنى سؤالك؟
-لقد كنت معه البارحة
-مع مَن؟
-عبد المهيمن.
ولفّتني بنظرة باكية. خرجت تائهاً، ذاهلاً. قلت هذا محال، وعجّلت في مشيّ. دخلت بيتي واستقررت على كرسي ألهث من التعب، وربما من شيء آخر.
جاءتني زوجتي تسأل:
-ماذا بك، ماذا جرى لك؟
انتفضت من مقعدي وسألتها
-هل عاد عبد المهيمن؟
وقالت متسائلة:
-أنت محموم؟
دخلت غرفتي وأغلقت الباب خلفي
* * *
طوّقتني الأحداث الأخيرة، ودفعت بي إلى رحى الانفعالات غير مشمول ببرهة هدوء. فقبل خمس عشرة سنة كان يرتعد لمجرد أنّ موتاً بالانتظار على الأبواب، وإنه ليسمع بين الحين والآخر رنين جرسه مع اقتراب حافلة منه تكاد تدهسه، أو مع خفوت الضوء، مجرد خفوته، ولشدَّ ما كان يفزع _ فيرفرف منه العقل طائراً _ بمجرّد أن يمرّ من أمامه قط يركض، فيتخذ آنذاك وضع المتأهب للدفاع عن نفسه. وكثيراً ما كنت أرثي لحاله، فأقول له: اهدأ لا يوجد ما يستوجب هذا التوتر. ويردّ معنّفاً: أنت لا تدري ما الأمر بل أنت لا تفقه شيئاً.
في الدقائق التي سبقت موته، وبآلية أحاط رقبته بيديه كأن تشنّجاً ألمَّ به، ثم ما لبث أن انفجر باكياً. ولم أنس أني وعلى مدى ثلاثة أيام كنت أستقبل المعزّين، وأضغط على زر المسجّل فينطلق الترتيل عذباً، ويتحرر من عقال الحياة كلُ شجن الوجود، وأتحرر بدوري من كل المنافع، وتضمحلّ كل الطموحات، وأنطلق روحاً خالصة تسبح في برزخ ماء ينجيها من عذاب حياتين.
لا يمكنني أن أشك لحظة واحدة في أن هذا ما جرى ولعلّي وأنا ما أزال أردد آية "وإن منكم" أوقن تماماً بموته.
نهض من مسجّاه، واختزل خمس عشرة سنة من الغياب في قوله إن السفر انتقال، وفي الانتقال موت.
بعد أيام زارني، وكنت دعوتـه إلى العشاء. كانت ليلة منسّمة. كنت أحدّق فيه لا أملّ النظر إليه .وكنت أتعمّد جسّ يده لأتأكد من مثوله أمامي.
قال لي:
-الحياة جميلة أليس كذلك؟
أجبت:
_بلى إنها حلوة برغم ما تحقن فينا من انفعالات وطموحـات.
وبعد أن استغرقنا التأمل، قال:
-إن الله قدّر أعمارنا، ولكن هذا لا يمنعني من الحلم بمزيد من السنين، بعمر إضافي بل بعمرين.
-ولكنك ميت في النهاية، ولو أُضيف إلى عمرك عشرة أضعافه.
-نعم هذا صحيح، ولكن للحياة جمالها، وبعمر واحد لن تستنفده.. وفي هذا هدر لإنسانيتي.
-وللحياة مرارتها…
وقاطعني:
-هذا صحيح.. ولعلّ جمال الحياة يكون في تمثّلك هذه المرارة. إنك بهذا إنما تعيش الحياة، وقد اكتملت دورةُ جمالها وعبقريتها، وأظنّك تعرف قصة السندباد وبحوره السبعة.
-دعنا من هذا الآن، وحدّثني عنك في السنين التي مضت.
-وعن أية سنة تُرى أحدثك؟ لقد فنيت فيما مضى من السنين، واستغرقتني أيامها فأحالتني رميماً، ثم ذرتني ريح الخوف، فتوزّعت في الدنيا لكل بلد مني قدر. وبقدر ما احتواني العالم احتويته ثم تجمّعت أجزائي من جديد في بدني الذي أمامك. ألست تراني؟ انظر إلي تراني، انظر إليك تراني، فأنا لست ميتاً كما يُخيل إليك. إنما هي رحلة ضمن نطاق الحياة على كتفي سندباد جديد. كنت أرى على مدّ البصر أشجارا هائلة العدد، ثريّة التنوع بثمارها. أكلت ما لذّ وطاب في الليل والنهار في المنام واليقظة. كانت الدنيا فوقي أقطفها بيدي، وألتهمها برغبتي فيها.
علّمني الفناء في السنين، أن الجميع لي سندباد. وبهذا أصنع حياة دهرية لا تنضب ينابيعها. فمن أين تريدني أن أبدأ، أمن لحظة الحلول في الأشياء، أم من مبتدأ جلوسي على العرش؟. هي كما تقول خمس عشر سنة امتنعت خلالها على نفسي، واضمحلّ الجسد في نطاق العزلة المضروبة عليه، وانبلجت إذ ذاك روح عظيمة، روح اخترقت شغاف الحياة لتملكها.. ثم انداح من بعد ذلك نورٌ فيّاض غمر الربوع، وكما ترى فأنا أمامك لست ميتاً كما تظن.
كنت أسمع خليطاً عجيباً، غير أنني اعتقدت في لحظة ما أنني قلت شيئاً من هذا الكلام في زمن ماض أو ربما حاضر، لست أدري.. ولكني أرجح أني نطقت به كله أو بعضه.
قلت له مستمزجاً رأيه:
-ما رأيك أن نسمع شيئاً من سورة مريم؟
وقال متفاجئاً:
-ولكن ألا ترى أن الوقت ليل؟!
-وماذا يعني؟
-إن عذوبة الترتيل تكون صباحاً
-هذا ما اعتدناه. لكن الحقيقة انه عذب وجميل في كل الأوقات.
-لا بأس، لا بأس.
ضغطت على زر المسجل. انسابت الكلمات تحرّك هجعة مئات السنين الراكدة في دمائنا، فيومض في داخلنا خوف فتي ما يلبث أن ينمو ويترعرع. كنت أختلس النظر إليه لأرصد ردة فعلـه. كان خشوعنا يتعاظم. كل منا تستغرقه الآيات، وما إن وثب الصوت إلى آية "وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيّاً" حتى دارت الدنيا دورتها المريعة، مشعلةً في الغرفة ناراً هائلة كأنما الجحيم انسكب على أرضها، وأتى على كل شيء. كانت دقيقة من نار، وكانت يداه تحوطان برقبته وصوته يخرج مزعزعاً، ضعيفاً وباكياً. ضغطت زر الإيقاف فصمتت النار، وتقطّع صوته. نهضت من مكاني، واتجهت إليه غاضباً محنقاً، أمسكت به من حلقه، وقلت صارخاً بصوت عالٍ:
-أنت ميت، اعترف وإلا سحقت عظامك أيها اللئيم. اعترف، قل إنك ميت أو أدق اللحظة عنقك.
بلغ مني الانفعال غايته، وطاش صوابي وجحظت عيناي، وتصبب بدني عرقاً. دفعت به في صدره، فانهار على كرسيه، خائر القوى. كنت في تأهب تام، وخُيّل إلي أني سأقتله الآن إن أصرّ على أنه حي.
جلست على كرسي قبالته، ورحت أحدّق فيه. مضى ما يقرب من ساعة. هدأت خلالها وانتظمت أنفاسي.
بدا لي في كامل ضعفه، فاقد المعنى والدلالة.
قلت له:
-وإلى أين أوصلك سندبادك أيها الخرف؟
كان واهنا، تركته حتى استجمع بعضاً من قواه الضائعة، بعد قليل قال:
-بعد أن غمر النور الفياض الربوع، وبدت الدنيا شمساً منيرة، ابتهجت أيما ابتهاج. وهلّلت وأنا أعبّ الفرح عبّاً. أخيراً ملكت الأرض وما عليها، ثمارها كلها لي ودباباتها. وأيقنت أنه إلي منتهى ما على الأرض. آنذاك قلت لنفسي ثم أطلقت الصوت عالياً، عالياً يخترق ما في الكون من مجرّات لن أموت.. لن أموت..
وسألته مقاطعاً، وبنبرة حادّة
-وماذا بعد؟
وبدا خائفاً وهو يرد:
-دعني الآن وسأكمل غداً.
-ومن يضمن لي أنك لن تهرب؟
-أبقني سجيناً عندك فلا أهرب
* * *
أذهلني أن أسمع كلاماً نطقت في السابق به كله، أو بعضه. وكثيراً ما قرأت "ألف ليلة وليلة" وكثيراً ما توقفت عند السندباد البحري يحكي قصته للسندباد البرّي. كانت تشدّني قصّته مع الرجل العجوز الذي حول رقبة السندباد إلى مسكن وآلة نقل. ولطالما انتابني الشعور بأن الأرض ستغشاها النار يوماً، وكثيراً ما أمسكت بي الرجفة وأنا أردد الآية "وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً" لكن ما هي قصة هذا الصديق، وماذا وراء هذه الثرثرة. أي حلول، وأي عرش وأية حياة دهرية؟. وكانت توهنني الأسئلة، فلا أملك البتة إجابة عنها. وكنت أحسب أني أموت أو أختنق في الحدّ الأدنى، عندما لا أعثر على الأجوبة الشافية. فأين تراها تكمن العلّة؟ خمسة عشر عاماً قرأت خلالها الفاتحة مئات المرات، وكنت أدفع بما أقرأ من سور القرآن إلى روحه عساها تغسلها من آثامها. لمّا مات آمنت أن الفائدة عظيمة وبلا حدّ من قراءة القرآن على روحه الضاجّة الثائرة، روحه الخارجة من نطاق الحياة، تلك الروح التي غنّت نصرها الدائم على موت قادم وأكيد. فأين عساي أكون الآن، ومَن هذا الذي أمامي ومَن الذي دفنته في غابر السنين، مَن، مَن؟.
وكأنما انتفخت مني الأوداج، وكأنما الوجه انفجر دماً. من عساي أسأل عنه؟. كل من في شارعنا، وكل من في مدينتنا يعلم أنه مات، وأنه دُفن، وأن على شاهدة قبره دُوّن اسمه "عبد المهيمن شهيد بغير حرب" . وإلى أين أذهب حتى لا أراه، وكان هذا محال. كنت أراه في كل شارع، وعند كل ناصية وفي بيتي ومكان عملي، في سرّي وعلني وفي منامي ويقظتي وأحسّه مع كل نبضة قلب. وأراه خارجاً من جوفي مع أنفاسي، ويتشكّل أمامي من هواء أحشائي، إنساناً كاملاً يضحك ويبكي، يحب الحياة ويكره الموت، ويكره السفر لأنه انتقال، وفي الانتقال موت.
حاولت أن أنام، وجاهدت لأقتنص غفوة فأريح جسدي من تعب الأيام الماضية، ولكن عبثاً، فلقد كنت أخاف أن تتهيأ له الفرصة بنومي فيهرب.
كان نائماً، يستفزني صوت شخيره على هدوئه، فأصحو تماماً، وأراقبه. إنه هو، وكأن السنين التي مضت لم تكن أكثر من برهة تنهار الآن، برهة موطوءة من شخيره الذي طالما أرّق سكون الليالي، وثَلَمَ الأحلام.
مضت الساعات، وأنا أنظر إليه، أراقبه في استلقائه على ظهره، وأثناء انقلابه على جنبيه. كنت في أعلى درجات صحوي، برغم أني لم أنم لحظة واحدة. ومع الشفق المتشقق من غلالة الغَلَس، ومع ابتداء تحرك الشمس نهضت متجهاً إلى المطبخ.
أعددت فنجان قهوة. بعد مضي ما يقرب من ساعتين نهضت ثانية، وبدأت بإعداد طعام الإفطار.
اقتربت منه. هززته حتى صحا
-انهض لتغسل وجهك وتفطر..
تمطّى وتثاءب، نظر إلي وراح يبتسم ثم تحولت ابتسامته إلى ضحكة عريضة.
-لماذا تضحك؟
-لا شيء. ولكن كأنك لم تنم!!
-هو كذلك لم أنم.
-كنت تخشى أن أهرب. قل لي
-ماذا؟
-هل يملك المرء أن يهرب من نفسه؟
-ماذا تعني؟
-لا شيء. وبعد قليل قال :
-هل هدأت. أرجو ذلك لنتحدث بهدوء. انظر ما أجمل تدفّق الصبح. إن له انبلاجاً رائعاً يكاد يوقظ الموتى. لا أدري لِمَ غضبت مني البارحة. عندما تغضب مني، فإنما تغضب من نفسك
-الآن لست غاضباً. قل لي ما حكايتك وأين كنت إن لم تكن ميتاً؟
-أنت تدري أني أخاف الموت، ولا أخاف شيئاً كما أخافه، وأخاف الظلمة، ولأني أخافها كنت أضيء النور لأطرد به شبح الموت القادم مع الظلام. ولهذا بدأت أبحث عن مكان ليله شمسٌ وهّاجة، مدفوعاً من نفسٍ وثّابة، شديدة التعلق بالحياة، كانت ما إن تهلّ الظلمة حتى ينفجر النور قوياً ساطعاً، ولاقتناص اللحظة المشحـونة بالموت تتحرك عيناي قي كل اتجاه تخرقان كل مستور. وتحسّباً لتجلّي الملاك في صورة ما استنجدت بكل الحذر المتاح. وهذا ما حدث يوم قفزت من فوقي قطّة سوداء بلون الليـل، بعينين زرقاوين لمّاعتين. كان مشهدا رهيباّ، ومواجهة شاملة. وكانت حرّة في حركتها، بينما كنت مقيّدا بخوفي ومرضي. شلّني هجوم القطة وهي تناور في محاولة منها لالتقاط الزاوية المناسبة للانقضاض علي. لاحقتها بعيني. أردت لها البقاء في دائرة الموت. إنها هنا لقتلي، لإنهاء الأجل المقدس الممنوح لي من الأعلى، روحاً مصانة من كل عبث في جسد تأكله الآن الأمراض.
كنت في أقصى التوتر، والتحفز والحذر. باطن يدي يستقر على الأرض, جذعي إلى الأمام . إن آتت حركة واحدة أنقض عليها. وهنا، ولأني شبه مقعد اخترعت سندباداً، وتسلّقت كتفيه ، وبدأت أفكر بالزمن القادم ، وتخيلته دقائق لا أكثر. دقائق ويراق الموت دماً على بلاط الغرفة، أفتراه دمي أم دمها؟
كانت أشبه ما تكون بنمر جائع ، فأشفقتُ على جسدي المرهق من مخالبها، وغصصت وأنا أبلع ريقي من الخوف من عينيها القادحتين، وقلت إن لبوس الملاك القادم لبوسٌ يمتلئ بالشر، وتساءلت لِمَ لا يبعث الله ملاكاً خاصاً بي، ويقبضني إليه بنفس رضية ويد هادئة فيكون موتي كموت جارنا، هادئاً هانئاً بلا غصّة. جارنا أنت تعرفه بالتأكيد، لقد مات على فراشه… ما أهناها من ميتة …
وهنا قاطعته:
-سألتك أين كنت، فأخذت تحدّثني عن قطة سوداء، لماذا تتهرب من الإجابة؟.
-صبراً فأنا لا أهرب من الإجابة على سؤالك. إن القطة ستأخذك إلى حيث كنت.
-كما قلت لك، كانت أشبه بنمر جائع، وكنت شبه مقعد،ولأني كذلك اخترعت سندباداً. كيف، لا أدري. وبدأت المعركة. كان التفاوت واضحاً وجلياً بين إمكانية كل منا أنا والقطة. كانت أسرع مني وأقدر من ثمّ على المناورة، وكنت برغم اختراعي لسندبادي – ولا يفوتك طبعاً الاختلاف بين سندبادي وسندباد ألف ليلة وليلة، ولا الاختلاف بيني وبين الشيخ العجوز في ألف ليلة وليلة –أقلّ قدرة على المناورة. كان انتقالي من مكان إلى آخر بطيئاً، ولإتلاف هذا العيب اعتمدت على يدي اللتين، ما إن تقترب القطة منهما حتى تُواجه بلكمة قاسية. دارت رحى المعركة، ليس من غالب ولا مغلوب. غافلتني كثيراً، وخرمشت وجهي، وتمكّنتُ منها ولكمتها عدّة لكمات في خاصرتها، وفي وجهها. كنت خائفاً إلى أن صرت في وسط المعركة، وأمدّني الانفعال بطاقة عالية وحيوية تكاد تكون بلا حدّ، على الاستمرار في حربي معها. ثم إن تعلّقي بالحياة، دفعني إلى الاعتقاد بأن القطة حيوان احتوى روحاً شريرة، ولذا فعليّ مصارعتها حتى تكون الغلبة لي.
بعد أن تمكن الإرهاق منا خرجت القطة وتحاملتُ على نفسي، وجريت وراءها، يحملني سندبادي. قطعنا أراضي واسعة وممتدة, حتى وصلنا جزيرة كأنها ليست من عالمنا. والحق أقول لك لم أر في حياتي جزيرة تماثلها بهاء وروعة. وهي باختصار روعة للناظرين كما يقال.
هنا توقف، وأشعل لفافة تبغ. انشددت إلى روايته، وانتابتني المتعة، لذلك رحت أسأله مخفياً شغفي بما يرويه:
-وماذا بعد؟
-كان في الجزيرة ما يسحرك، ويبهج روحك. كانت قبل شيء غنى للعقل والنفس. ما إن دخلتها حتى اختفت القطة.
تغيرت ملامحي وتبدّلت طباعي، ولعلمكَ لم أتذكر هذه الأحداث، إلا عندما رأيتك.
كان من سمات هذه الجزيرة، أن النور يغمرها على مدى اليوم، فلا ليل ولا ظلمة بل شمس ضاجّة بالنور مترعة به، حتى فاض عنها، فإذا به يفرش أرض الجزيرة وترتديه أشجارها، وتغرّده طيورها، فلا تملك أن تقول سوى إن الحياة هنا باسقة، ريعانه ريّانة كما ليس في أي مكان. حياة بسطت جمالها الأخّاذ، وأشرقت فيها الربوع بآلاف الأمنيات. وليس من حدود لهذه الجزيرة، لا بحار ولا محيطات ولا أراضي ، فهي على أبعد من مدّ البصر. فيحاء غناء. ما إن دخلتها حتى عاودني نشاطي، وبدأت أسير على قدمين قويتين قاطعاً مسافات طويلة دون إحساس بالتعب، هكذا حتى وصلت جدول ماء تحفّه الأشجار والأطيار، وتغنّيه الحناجر رقّةً وسلسبيلاً، ثم سمعت صوت خريره، ورأيت ساقين تداعبان ماءه. ما أجملهما من ساقين. أمعنت النظر، فأبصرت فتاة غاية في الجمال والصبا. كدت أفقد عقلي من فرط جمالها، وتذكّرت شعراً
ألقت إلى الماء حجلاً لفّ ناصعة كأنما فيه ريّ الماء من غلل
تقدمت منها، حييتها، وسألتها:
-ما اسمك؟
فأجابت
-شهرزاد
وقلت مندهشاً:
-شهرزاد صاحبة الروايات الشهيرة!!
فأجابت:
-أجل.
وازددت دهشة، وغمرني الذهول وبصعوبة سألتها:
-ولكن كيف؟ أقصد إذا كنت شهرزاد فأين شهريار؟
-أمامي.
-أين لا أراه؟
-ألا ترى نفسك، هل بك علّة؟
-ماذا ؟!! ماذا تقولين؟
-أقول إنك شهريار الخائف دائماً من الموت والقاتل مع كل إشراقة صبح أنثى جميلة.
-هذا هراء، فاسمي عبد المهيمن، مواطن عادي، ولم اكن يوماً ملكاً.
-ليس هراء، بل حقيقة، فشهريار وعبد المهيمن شخص واحد
-هذا محال!!
-بل واقع .
-كيف؟
-ببساطة، فلقد اكتشفت يوم تزوجتني أنك إنسان قبل أن تكون ملكاً، وعاد إليك صوابك فسمّيت نفسك عبد المهيمن يوم أدركت أن ملكاً أعظم منك حسب تعبيرك لا يغفل ولا ينام.
وهنا توقف، ثم استلقى على ظهره، وراح ينظر إلى أعلى، وما لبث أن أغمض عينيه. أحسسته يدخل في هدأة كهدأة الليل، مسترخياً يغفو من بعد تعب.
أدهشني ما سمعت، وراعني يقيني الثابت المكين، من أنّ هذه الجزيرة، رأيتها ولكن أين لا أدري، ربما في المنام، وراعني أكثر أنني يوماً ما لعبت دور شهريار وجرى بيني وبين شهرزاد مثل هذا الحوار.
اختلجت جوارحي، وانتابني كثير من الخوف ، ولعلعت أعطافي به. وما انتبهت إلى نفسي إلا وأنا أصرخ كالمحموم من أنا ومن تكون أنت؟.
صحا من غفوته، وبهدوء سألني
-ما بك؟
-لا شيء. اكمل حديثك
-دعني الآن
-لا. اكمل وإلا سحقت عظامك
-ولكن لم يعد لدي ما أحكيه
-كيف
-بقي أمر واحد وتنتهي حكايتي تماماً
-ما هو؟
-تركتني شهرزاد وراحت بعد أن دلّتني على نفسي. ثم أخذت أسير كالمتخاذل فإذا أنا أمام نار هائلة، لا تُوصف، وليس بإمكاني أن أنقل لك من وقائعها ومن حالي، غير ذلك الهجير اللافح، وصراخي الذي اخترق السحب الإلهية.
ما هو عجيب ومذهل أني والنار تطبخني وتسلخني ثم يُعاد بنائي ثانية، وأُطبخ وأُسلخ من جديد، أني وأنا في هذه الحال، تراءت لي القطة، وتخيلتها في وضع الهجوم، ورأيت شهرزاد متشفّية. كانت في غاية الابتهاج، وكنت أموت وأحيا وأتذكر آية "وإن منكم…" ثم مددت يدي متوسلاً ومستنجداً، ولكن عبثاً. فقد ظلّت تروح وتجيء ، من غير أن تمسسها النار، في ضحك وابتهاج.
[i] أديب سوري