الموت الأصغر

الموت الأصغر

ماجد رشيد العويد [1]

قالوا لي أنت عظيم فأدركني الجنون، وبعضهم قال لي أنت مجنون فأدركني الأدب. وتلك ليست مشكلة، فالأدب جنون والجنون فنون، ولذا علي أن أخرج للعالم بشيء غريب، فمثلاً عندما أكتب قصة، تتدفق الدماء، ويضجّ الدماغ، وتنتابني رعشة الكلمات وتختلج فيّ الحروف. وكذلك يستبـد بي الانفعال وأتصبب عرقاً ويقف شعر رأسي ويختلج كياني المحدود كلـه. في أثناء ذلك، أعنـي وأنا أكتب، يراودني الشعور بأني ملكت العالم، وصرت سيداً متوجاً عليه بكلماتي، وأبدأ الحديث بصوت عال: أنا سيد الكلمات ومالكُ زمامها إلى بناء عالم مثالي شفاف. ثم إني وأنا أسجل قصتي هذه التي بين أيديكم، حاورت وجادلت أخي واتفقنا على أن العلاقة بين الكاتب والقارئ يبنيها شعور حاد كامن في تجاويف النفس، شعور بالنقص ربما، أو بالحاجة إلى تشييد ما لا يستطاع تشييده بالساعد. وهنا تعمل السبابة بمؤازرة من الإبهام على تحريك القلم على الصفحة البيضاء، وتسويدها بحبر أزرق أو أسود لا فـرق طبعاً. وتغدو الصفحة مثل كون خام، كأنما هو في حالة عماء، ثم يفطر هذا الكون بالأحرف فيقوم الزمان، ويتشكل المكان، ثم ينفخ في هذين البعدين من روح الكاتب فتنهض الشخصيات. وهنا قال لي أخي ولأسميه سعيد: هذا صحيح، ولكن هذه الشخصيات استقلت عنك بدليل أنها تسعى إلى شنقك وتدميرك على الرغم من أنك من كتبها وأقامها. لماذا؟ لأنك فرضت عليها نظامك وشخيرك.

ولا يضعفني الاعتراف هنا بأن ما قاله سعيد فاجأني، ولأقل بلغة أخرى إن الكرة باتت في ملعبي. ولكن لا يضيرني هذا الوضع، لأنني ما أزال أملك زمام الشخصيات، وبكل بساطة يمكنني تمزيق القصة، وبهذا تموت كل الشخصيات المعترضة على شخيري، والساعية إلى تدميري، ثم أكتبها بطريقة أخرى تراه من خلالها لحناً أيقظهم من سبات عميق. وهنا قال سعيد: تستطيع أن تفعل ما أشرت إليه، ولكنك الآن كتبت القصة وفرضت نظامك، وآن لك أن تعاقب. وكان كأنما يريد القول إنهم خرجوا على السيطرة. لا بأس فليخرجوا وليتمردوا فهم باقون عبر صناعتي لهم وهم وإن أصابوني في مقتل فإنما مثلهم كمثل جارية شجرة الدر. وإذا ما دخلوا التاريخ فعبر بوابتي.

* * *

لندع الآن - وإن إلى حين هؤلاء الذين قمت بصناعتهم وتكوينهم. ونعد إلى الكيفية التي كتبت بها القصة. فبـعد الانفعـال، ووقوف شعر الرأس، والابتهاج الغامر بالسيادة على العالم، تشرق الفكرة، وتملك علي نفسي، وتبدأ مرحلة التمثل والمعالجة، فعندما كتبت عن الشخير رحت أجربه وأنا جالس، ثم وأنا أمشي. وترى الآخرين ينظرون إلي وصوتي يتردد في حلـقي، ويعجبون من أمري، ويتداولونه فيما بينهم متسائلين: كيف يشخر هذا وهو سائر ثم وهو جالس؟ ولا بد أنهم مصيبون فيما راحوا إليه. فلقد اعتاد الناس على الشخير في النوم ولكنهم نسوا أني بثثت خاصيتي هذه في عروقهم منذ عقود فصارت بعض حياتهم.

متى استلقيت على فراشي نمت، غير عابئ بالأرض وما عليها، أغط وأشخـر وأوزع القلق، وأرقاً لا يطاق. ينتفـض أخي، ويهدر غضباً ولا ينام. يأتي إلى، يهزني من كتفي فأصحو كالمأخوذ، ويطلب إلي أن أغير من وضعيتي في النوم.

كنت أنام مستلقياً على ظهري، فيزداد شخيري، ثم أضطجع على جنبي، فيقل شخيري، إلى حين، ثم ما يلبث أن يتصاعد منغصاً على الصاحين صحوهم، ومثيراً فيهم زوابع قلق لا تنتهي إلا بعد أن ينالهم الإرهاق، ويسلمهم إلى نوع من الكرى الثقيل.

راجعت طبيباً وعالجت الجيوب الأنفية. وظل الشخير وظلت ترتفع وتيرته. مكّنت جسدي من الراحة، ووطنت نفسي على القبول بواقعي. وظل الشخير وظلت ترتفع وتيرته. حـاورت أخي وحاورني بغية الوصول إلى الأسباب الخفية الكامنة وراء شخيري المتواصل والمتعاظم والمثير للدهشة. وعبثاً كانت محاوراتنا، واللافت للنظر أنه كان يتفاقم يوماً بعد الآخر، متجاوزاً كياني البشري المفرد والمحدود إلى كيان أوسع، فقد قيل لي إن جدران منزلي كان لها إيقاعها المنتظم في الليل، فتصدر أصواتاً مترافقة مع شخيري وكان أخي يضطر إلى تخفيف الضغط الواقع عليه، إلى ضرب رأسه بالحائط، مع نوبات هستيرية من البكاء. ثم إن الحالة تجاوزت جدران منزلي إلى أشجاره، فحفيف أوراقها بات يصدر أصواتاً كأنها الشخير ، بل هي كذلك كما أكد لي أخي، ومع مرور الأيام صار الحي الذي أقطن فيه لا ينام، وبخاصة في فصل الصيف قبل الرابعة صباحـاً.

كنت أضع رأسي على الوسادة فأنـام، ثم أبدأ ببث موسيقاي. بموتي الأصغر هذا أشل حركة أخي وأقاربي، وأجدد صلتي بأحلامي بامتلاك العالم، ويتجدد في الآخرين حزن ويأس وكآبة. وذات مرة صحوت من نومي شبه مذعور، وكأنما فرّت مني ملكيتي للأرض وقلت لأخي متسائلا: ما بك؟ وأجابني وهو يعض بالنواجذ ويأكله الحنق: لا شيء. وابتعد عني. وتساءلت لم إذن كان يمسك بيديه رقبتي كأنه سيخنقني. لا ريب كان يقوم بخنقي، وفي الحد الأدنى كان يفرغ بحركته هذه ما أسببه له من استفزاز وقهر. وطمأنت نفسي أن الأمر على هذا النحو وليس على غيره.

بمرور السنين صارت المدينة كلها مستفزة، ويحركها انفعال واحد، وأنها بموجبه عليها أن تشخر استجابة لشخيري، أناسها وأشجارها وسياراتها وبهائمها. وكنت وحدي أنام، أنام ملء الجفون نوماً هانئاً، خلال اللحظات الأولى من استلقائي، بينما كل شيء من حولي قد أصابته عدوى شخيري بالأرق.

صار الناس في المدينة نسخة من أخي، كلهم يبكي، وكلهم يضرب رأسه بالحائط. حتى لترى الجدران جميـعها مدماة، كأنما فنان رسم على سطحها قدراً قلقاً وكئيباً. راح الجميع يتساءلون عن أسباب استسلامهم لشخيري. وفي غمرة انتشار العدوى أخذوا يبحثون في اتجاه الرياح، وكيف أنها تأخذ الشجر يميناً ويساراً، وتلعب بأوراقها. ثم بدؤوا يبحثون قضايا الناس ومستلزماتهم، وعن السبيل لتثبيط انفعالاتهم وهيجانهم، وبحثوا للسيارات عن كاتم صوت حتى إذا انطلقت تنطلق كأنها الغزلان رخية لينة.

وأحضروا الأطباء البيطريين لمعالجة البهائم . بذلوا الليالي والنهارات وتتابعت الأيام، والمدينـة تعمل كأنها خلية نحل، وأنا نائم. وتردد على الأذهان أن سخطاً من السماء قد حل بالمدينة، واستقر في أعصابها فأذهلها عن نفسها. وحاول الناس توطين أمرهم على القبول بهذا الرأي، وبذلوا لأجل هذا الكثير من المحاولات، ثم انفجروا دفعة واحدة قائلين محال لأن الله لا يعاقب بريئاً بمجرم وعاقلاً بأحمق.

استوطن الأنفس نواح، هو جماع مآسي التاريخ، وانطلق البكاء موجات، موجات بصوت واحد، وكنت وحدي أنام قرير العين، ومن اللحظات الأولى.

اجتمع الرأي ذات يوم على العودة إلي. قال الناس: لنذهب إليه فنسأله أن يحد من تردد صوته في حلقه. أمام الدار اجتمعت المدينة بأناسها ودوابها، بأشجارها وآلياتها. الكل صار يتكلم، الناس والبـهائم والشجر، الطيـر والدود والملصقات على الجدران. الكل قال: ليتكلم أخوه عنا، فهو منا مستفز من شخيره مثلنا، وبكى وضرب رأسه في الجدران، مثلما بكينا وضربنا رؤوسنا...

كنت نائماً عندما تلقيت الصفعة، فتنبهت مذهولاً وسألت أخي عن أمره، فأجابني بسؤاله عن أحلامي وعن طبيعتها، وهل هي سوداوية، أم صافية كنهار يوم صائف جميل. وطلب إلي أن أحدثه عن الأحلام التي رأيتها في السنين الماضية، بالتفصيل الممل ودون أن أنسى حلماً واحداً. وقال لي إن لم أفعل سيقتلني حالاً. اعتذرت إليه اعتذار القادر، وطلبت إليه باسم الأخوة أن يقبل اعتذاري، فأنا لا أجيد الكلام وهو يعرف عني هذا. وطلبت إليه أن يحاول معرفة أحلامي بنفسه عن طريق " التلفزيون " وصُعق أخي من ربطي شخيري وأحلامي بهذا الجهاز، وبدا عليه الحمق والبله. وطلبت إليه ألا يستغرب على أساس أن علاقتي به امتدت من تاريخ صناعته إلى اللحظة الراهنة. وقلت له ربما على سبيل المجاز: إني ابتلعت هذا الجهاز حتى لا يفوتني شيء من برامجـه التي تشكلت من أحلامي وتبلورت عليها، فحلقي هو " التلفزيون " وصوتي يتردد في شاشته ولا مفر لهم من الاستماع إلي. وهو كذلك الابن البار لي، والناطق باسمي شخيراً وحلماً وحركة. ودُهش أخي، وأصابـه الروع وقال: ربما مسك مس فاختلط الأمر عليك. ثم رأيته وقـد رقّ لي، وأخذ يحنو علي ويربت على كتفي ويقـول لا بأس، لا بأس، ثم تركني وانصرف إلى بعض أمره، وانصرفت بدوري إلى فراشي ونمت.

في الصباح أفقت، فإذا الفتور يملأ المكان، ومن النافذة أبصرت المدينة بكائناتها جميعاً أمام منزلي وسنانة فاترة. ولم يخطر لي أن أرتجف أو أهتز، وقلت لأخي: ما بال المدينة مجتمعة أمام الدار ضاجة على الرغم مما يبدو عليها من الفتور، هل حدث مكروه؟ فأجابني بما لم يكن متوقعاً بالنسبة لي، قال إنهم يطلبون منه تسليمي إليهم، واستعلمت عن السبب فقال: لشنقك على باب الدار، لأنه بالموت فقط ينقطع صوتك، وينام الناس هانئين هادئين، وقلت له: وهل لشخيري أن يفعل كل هذا وأن يغضب الناس هذا الغضب كله، قال: أجل، وإنه قد دمر حياتهم، وسرّب من بين أيديهم مستقبلهم، فلم يعد لهم من شاغل إلا الاستجابة لشخيري، وذلك لإرضائي على الرغم مما استقر فيهم من القهر والذل. وقلت له: لعلك ترى غير ما يرون، وتنقذني من هذه الورطة، وأضفت مستدركاً: ألم تكن تريد البحث في أحلامي بظلامها ونورها؟ قال: بلى، ولكن هذا صعب وعسير فأنت بعض هذا الجهاز، وأشار إلى التلفزيون، دمك من دمه، وروحك من روحه، على أنك يجب ألا تنسى أن شخيرك يمده بالطاقة ويشحنه بحيوية البث والحركة. لا مفر من تسليمك إليهم. وقلت له : حتى إذا كان هذا صحيحاً فعليك أن تعلم بأن السحر قد انقلب على الساحر، وقال لي: هذا صحيح، ولهذا سيحطم كل واحد حصتك في هذا الجهاز فلعل في التحطيم بطلان شخيرك.

وتركني ورحل، وعدت إلى فراشي غير عابئ بما ينتظرني، بالأرض وما حملت، ثم بدأت أموت ميتتي الصغـرى، وداخلاً رويدا، رويدا في ميتتي الكبرى.

[i] أديب سوري