لـعـبة الأيـام
لـعـبة الأيـام
نعيم الغول
(1)
حين تبدت من بين ثقوب شبك الزيارة في سجن "سواقة" قسمات وجهه سرى في دماغه تيار لاذع. وتراجع قليلا وقد خرجت من بين شفتيه المرتجفتين صرخة خافتة : " أنت؟".
شهور ثلاثة كانت قد مرت منذ دخل السجن لم يزره فيها أحد. كان في كل لحظة يتمنى لو أن أحدا يأتي يقول مرحبا. كيف حالك؟ وحين تتحقق الأمنية يأتي هو من بين كل الناس ..هو؟
- ماذا كانت آخر كلمة قلتها لك؟
- سنلتقي..
- في مكان لا يخطر ببالك.
(2)
عدل صورة "أمل" ابنته ذات الثلاث سنوات حين وجدها مائلة قليلا. كانت دائما أمامه على مرآة "النص". كان قد غادر الحدود السعودية منذ خمس ساعات وسيصل الى البيت في الساعة الثانية صباحا تقريبا. تنهد . "أمل" ستكون نائمة ولن يزعجها في نومها. لكنه سيضع لعبة "العروسة الناطقة" بجانبها وسيجهزها لتقول صباح الخير لأمل حين تفتح عينيها . لسامية زوجته احضر عباءة سوداء مقصبة وزجاجة عطر فاخر . وسيزف لهما قراره الأخير بترك العمل في السفريات الخارجية التي تبعده أياما طويلة عنهما. لن يقرأ بعد ذاك الأنين الصامت في عيني زوجته. هو يعرف انهم لا يتوقعون عودته فقد أمرته الشركة بترك الحمل كله في فرعها بالكويت والعودة فورا دون الذهاب الى مدينة الرياض السعودية كما كان مخططا ؛ فالشحن الى العراق بعد انتهاء عمليات الغزو الأمريكي تصاعد. رجا ألا تكون سامية نائمة كالعادة فيضطر الى القفز من سطح المنزل الخلفي. شعر بتأنيب الضمير لأنه لم يرفع جدار السطح، فبقاؤه على هذا الحال يغري اللصوص بالقفز عنه، والدخول الى حرم المنزل. ولكنه عاد واطمأن حين تذكر أن سامية لم تكن خائفة ، فقد قالت إن الحي آمن تماما وحولها جيران يقظون يسمعون حتى حفيف أجنحة البعوض.
نظر الى ساعته حين وصل الى البيت فوجدها الواحدة والنصف. أدار مقبض الباب فوجده مغلقا. كان هواء كانون الثاني البارد يعصف بكل شيء حوله. سُرَّ عندما رأى الغرف مضاءة فقد كان يؤمن بأن البيت المضاء يخيف اللصوص. دار حول البيت وقفز من على السور وتسلق شجرة التينة وقفز الى السطح ثم دخل من باب الدرج فوجد نفسه بعد دقائق أمام غرفة نومه. وحين فتح الباب توسعت عيناه حين رأى سريرَه وقد اختلط صريرُه بلهاثَ رجل عار مع شهيق زوجته.
(3)
ما تزال صورة أمل ترافقه مع وجع المسافات المفعمة برمل الصحراء وحرها وعرق الذكريات المستوطن في أعماقه. لكن سواد الإسفلت الذي سينقله الى الكويت ليفرغ الحمولة المبردة ثم يعود الى السعودية لتحميل شحنة لحوم أغرته بان ينطلق مع الأرقام وينسى ما حدث، فقد توالت عليه شهور عود نفسه خلالها على التسبيح والحوقلة كلما لعبت به الذكرى كومضة ضوء من بعيد. تنبه الى أن ومضة الضوء هي حقيقة واقعة أمامه وليس خيالا أو ضربا من الذكريات تطفو وتغرق. إنها شاحنة مقابلة يضيء سائقها له ويطفئ وهو يعرف جيدا أنها بلغة السواقين اشارة الى التوقف لنقل خبر. لم يعجب لتمييز الآخرين له من بين كل الشاحنات فقد كان لون سيارته مختلفا الى حد أن السائقين يعرفونها من على بعد اكثر من خمسمئة متر. عانقه السائق الآخر. كان صديقا قديما يعرفه منذ سنوات على خط الترانزيت.
بدا مرتبكا لكنه سارع وناوله جريدة. أشار بيده الى خبر محاط بدائرة حمراء، وتشاغل بصنع الشاي.
" حكمت محكمة الجنايات الكبرى على المدعو س.م بالسجن خمسة عشر عاما لقتله زوجته وعشيقها حين ضبطهما في فراشه.."
(4)
وجها لوجه. شبك الزيارة يفصل بينهما كما فصلت بينهما سبعة اشهر. شبك الزيارة كالغربال يفشل في إخفاء الحقيقة التي يعرفها كلاهما. س . م وجد نفسه يوما عاريا أمام رجل يعرف البيت ويعرف المرأة التي صارت زوجته فيما بعد. لحظتها انتصب الموت في فوهة مسدسه . انتظر أن يخرج الموت ويطوقهما بذراعيه الباردتين. لكن ما سمعه كان :" أنت طالق" لها و "سنلتقي يوما في مكان لا تتوقعه" له.
س. م لم يجد شيئا يفعله سوى الإطراق، فيما تابع الاول:" كنت أستطيع أن افعل ما فعلت، لكن اليد التي تحمل الموت لا تحمل العدل دائما ؛ فاخترت لعبة الأيام "